تقارير

بذاكرة (غير مشروخة) وبكثير من الدموع والغضب والرقة "سعاد الفاتح" تحكي

طاردت نائب برلماني بـ”جزمتي الحمراء”.. ولسه (الدم فاير في راسي) من الطالب “شوقي”
أنا و”فاطمة أحمد إبراهيم” كنا أعز صاحبات و(بنمشي ونجي سوا)
“الترابي” أوصانا بالفن.. و”لزيت الباب بكراعي” لما دخلت على وزير المالية
كتب- محمد إبراهيم الحاج
بصوت تغلبه العبرات تارة، يتهدج حيناً بالبكاء وأحياناً بالغضب ومرات كثيرة بالرقة والحكمة.. تحدثت البروفيسور “سعاد الفاتح البدوي” لأكثر من خمس ساعات، وبدت رغم رهق السنوات والمحطات المؤثرة كامرأة في مقتبل العمر تتنقل في كل مراحل عمرها بعاطفة جياشة بدا أن السنوات لم تخب فيها بعض أوارها.. بدت كما عرفها مناصروها وأعداؤها الأيديولوجيون، مدافعة شرسة عن أفكارها، وعن مشروع الحركة الإسلامية، لأكثر من (60) عاماً ظلت ربما هي الوجه النسائي الأبرز من بين رصيفاتها، تتسلف قوة مراس الرجال وتصدع بما تراه فطرتها دون وجل أو خوف، ولهذا ربما باتت “سعاد الفاتح” الآن تاريخاً يمشي على قدمين.
تحدثت “سعاد” في المنبر الذي نظمه المركز السوداني للخدمات الصحفية بعنوان (مسامرة مع سعاد الفاتح البدوي)، حديثاً ربما يكون الأطول في مسيرتها السياسية والفكرية، لم تقطعه سوى لحظات لأداء واجب صلاة الظهر، عادت بعدها السيدة التي اشتهرت في الأوساط السياسية والفكرية السودانية منذ نصف قرن إلى سرد كثير من محطات حياتها التي ربما تعرّف الناس لأول مرة على كثير من خباياها وأسرارها.
{ الانضمام للحركة الإسلامية.. وحكايتي مع “فاطمة”
بدأت بروف “سعاد” سرد تجربة انضمامها لحركة الإخوان المسلمين التي قالت إنها كانت على يد “بابكر كرار” الذي وصفته بالرجل الطويل صاحب الشخصية القوية، ووقتها كانت الأخت “فاطمة طالب” هي الأخت المسلمة الوحيدة، وكان الحزب الشيوعي في أبهى صوره وكانت “فاطمة أحمد إبراهيم” من أعز صديقاتي وكنا (بنمشي سوا وبنجي سوا)، وفي يوم من الأيام أعطيتها كتاباً للإمام “حسن البنا” وطلبت منها أن تقرأه، وبدورها سعت إلى إهدائي كتاباً عن الاشتراكية، لكننني سألتها (ده كتاب الشيوعيين) واسترجعت كتابي منها وقلت لها (ما عايزة كتابك)، ومنذ ذلك الوقت ذهبت هي في طريق وأنا في طريق، ولم نلتق حتى الآن، وكان ذلك في عام 1952.
 وأوضحت “سعاد” أنها سعت إلى إصدار مجلة (المنار) بعد انضمامها للإخوان المسلمين وكانت هي رئيس التحرير لها، ثم سعت إلى تدريب النساء على الخياطة وبعض الأمور المنزلية وكوّنا لجاناً في الأحياء، وتعلمت أصول الصحافة من الأستاذ “محجوب محمد صالح” ورغم اختلافنا الفكري إلا أنه كان يضع كل الأمور جانباً ويعمل بمهنية.
 { حكايتي مع الملوك والرؤساء
قالت “سعاد” إن الملك “فيصل” عندما سمع بمساهمتي في حل الحزب الشيوعي استدعاني إلى المملكة العربية السعودية وعندما ذهبت إلى زيارته وجدت صفوفاً من العساكر تحيط بقصره، وتحدث وقتها معي طويلاً وقال لي “ما ترجعي إلى السودان مرة أخرى”، وحينها ساهمت في وضع الأساس التعليمي للمملكة في تعليم البنات، وعندما ذهبت إلى البحرين بدعوة منه للمساهمة في إنشاء التعليم النسوي هناك منحني ذات مرة خاتماً من الجواهر والياقوت لكنني أبلغت مرافقتي أن تكتب محضراً وتسلمه إلى اللجنة التي كونتها، ثم أحضر لي بعد ذلك هدية عبارة عن (بلوزة) من الذهب الخالص بعد نجاحي في دراسة الدكتوراه لكنني رفضت هديته، وعندما تم إنشاء جامعة الإمارات العربية المتحدة زارني رئيس الجامعة في بيتي وعرض عليّ منصب (نائب رئيس الجامعة) والتحقت بها بعد أن استأذنت من الحركة الإسلامية. وأشارت “سعاد” إلى الدور الكبير الذي لعبه الملك “زايد” وقتها في تجميع الإمارات العربية المتحدة التي كانت تدعى وقتها الإمارات المتصالحة، لكنني أجبرت على الاستقالة من الجامعة بعد أن تكالب عليّ الكُتّاب اليساريون في الصحف الإماراتية، وفي عام واحد كُتبت ضدي نحو (63) مقالاً، وتشكلت قوة ضغط رهيبة في الإمارات لفصلي من الجامعة، ومنها أجبرت على تقديم استقالتي، وبعد ذلك اتصلت بي أخت الشيخ “زايد” وقالت لي بالحرف الواحد: (نعمل شنو عشان ترضي علينا).
{ حكايتي مع حل الحزب الشيوعي
كانت “سعاد” من أبرز الوجوه التي وقفت بصلابة بعد حادثة معهد المعلمين وقادت تظاهرة أمام البرلمان مطالبة بحل الحزب الشيوعي.. تقول “سعاد” عن وقائع تلك الحادثة: (أذكر وقتها أنها كانت ندوة بحوش الخليفة في معهد المعلمين وتحدثنا فيها كثيراً ولكن “ولد اسمو شوقي” قال كلمة “بطالة” في بيت النبي وذكر حادثة معينة، وقتها صدم كل من كان حاضراً في الندوة و”اتهجموا” بطريقة غير مسبوقة وأصابتهم “خلعة” لم يستطيعوا بعدها النطق لأن هذا الشخص تجرأ على أشرف خلق الله وتجرأ على أحب زوجاته إليه وهي السيدة عائشة رضي الله عنها، وفي ذلك اليوم لم أنم حتى الصباح وتحدثت مع علي عبد الله يعقوب وقلت له “الحكاية دي لا يمكن السكوت عنها أبداً”، ومشيت لمولانا الخاتم وقلت له “حصلت كارثة في هذا البلد لأي إنسان يحب النبي” وحكيت له ما حدث فقال لي بالحرف الواحد “اطلعي موتي.. إن شاء الله تموتي شهيدة” واتصلت وقتها بكل الصحافيين، لكن لم يحضر منهم سوى صحفي واحد جاء فقط ليرى ما الذي سأفعله، وعندما خرجت إلى محلية أم درمان كانت شوارع العرضة تمور بالرجال والنساء بعد أن انتشر الخبر في الناس انتشار النار في الهشيم، وقلت لهم “لازم الشعب يقول كلمته”). وأضافت: (وأذكر وقتها أن أحد الرجال الذي كان يلبس ملابس نضيفة وبيضاء سألني عن الحاصل وقلت له حدث كذا وكذا في معهد المعلمين، فما كان منه سوى أن أهال على نفسه الحصى، ووقتها كان الناس يكيلون على أنفسهم التراب عند حدوث مصيبة، لكن هذا الرجل كال على نفسه “الحصى” لفرط غضبه وتوجهنا إلى البرلمان في تظاهرة مهيبة علم بها النواب في الداخل، وتقدم العضو محمد حسن كاروري بمقترح حل الحزب الشيوعي، وخرج علينا بعد لحظات محمد أحمد المحجوب يبلغنا بقرار حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه، وخرج نوابه من الأبواب الخلفية وطلعوا “مدنقرين”)، وواصلت بروف “سعاد”: (شافع زي ده يتجرأ على النبي.. لو أمسكنا به وقتها كنا مزقناه بسنوننا وأظافرنا.. ورغم مرور خمسين عاماً على هذه الحادثة إلا أنه “لسه الدم فاير في راسي”).
{ “الترابي” أوصانا على الفن من أول يوم دخلنا الإنقاذ
ربما السنوات الطويلة التي قضتها بروف “سعاد” تتقلب بين الدعوة لما تؤمن به في الحركة الإسلامية وبين نشاطها المجتمعي فيما تراه خدمة لنساء المسلمين، لم تشرخ من ذاكرتها شيئاً، ولم تفقدها كثيراً من التفاصيل الصغيرة التي كانت تتحدث به.. كانت تتحدث كما لو أن تلك الأحداث لم تمر عليها سوى ساعات قليلة، رغم أن عمرها يزيد عن نصف القرن.. كانت تتذكر الملابس التي كانت ترتديها وقت وقوع  تلك الأحداث، بل حتى ألوانها لم تسقط تفاصيلها من ذاكرتها.. قالت سعاد: (أوصانا الترابي بالفن من أول يوم دخلنا فيهو الإنقاذ وأبلغنا بقوله “ديروا بالكم على الفن”.. ووقتها كان بعض العلماء يعدّون الفن حراماً.. التقط الدفاع الشعبي القفاز وبدأ بغربلة الفن من أغنيات على شاكلة “حبيبي جنني” ومن الأغاني الأخرى، وجاء الدفاع الشعبي بجلالات ومعاني جديدة مثل “إن شاء الله نموت شهداء” وخرجنا من جبة الوطن وأصبحنا نقول الإسلام هو الحل.. وأضافت: (قلنا إننا يمكن أن نغزو أمريكا نفسها بالإسلام مثلما تريد هي والغرب أن يغزونا باتفاقيات على شاكلة “سيداو”.. الإسلام لا يعني أن أتحجب وأبقى حجر).. وزادت: (وأذكر أنه في جامعة القاهرة كانت هناك فتاة شيوعية أعرفها بالاسم، لكنني لن أقوله الآن حفاظاً على أشياء كثيرة، كانت من أشد أعداء الحركة الإسلامية، لكنها أصبحت اليوم بفضل الدعوة بالحسنى والموعظة الحسنة  زعيمة الأخوات في منطقتها وأصبحت “ليلها قايمة ونهارها صايمة”)، وأضافت: (كنا عايزين نبيع للناس الكلام السمح ده لأن أي إنسان يمكن أن يخطئ وأن يصيب وخير الخطاءين التوابين، ثم بعد ذلك في الإنقاذ اخترعنا الاقتصاد الشعبي لمحاربة الغلاء.. هناك بعض الناس يطبخون “أظافر” الدجاج ليأكلوها، وذهبنا لوزير المالية السابق علي محمود وعندما دخلت عليهو “لزيت الباب بكراعي” وأخبرته بإنو نحن عايزين نعمل مصانع للناس عشان يأكلوا دجاج ويشربوا حليب، وطرحت عليه مشروع الطعام للجميع، وهو مشروع يتيح للمرأة في منزلها أن تنتج طعامها بنفسها)، وتابعت: (إذا كنا زي الصين مافي زول فينا ح يجوع لأنهم حفروا الآبار بأيديهم، والآن أنتجوا التجارب النووية واستطاعوا أن يحجزوا مقعداً دائماً في الأمم المتحدة، وقبل فترة قرأت أن القطارات متوقفة لأنو “صامولة غير موجودة”، فلماذا لا ننتج كل هذه الأشياء لدينا.. ونحن نملك كل شيء من حديد وذهب وأرض وأنا الآن في أفريقيا دربت “500” داية ومن السودان “635” داية، وعندما ذهبت إلىى عبد الرحيم محمد حسين في القيادة قالوا لي “إنت ح تمشي ليهو في القيادة العامة” قلت ليهم “أيوة”. ومشيت ليهو وقلت ليهو عايزة أدرب نسوان السودان كلهم وعايزة أعلمهم أي حاجة لأنو نحن عايزين العسكري ده يؤمّن الشارع بس وأي حاجة تانية ممكن المجتمع يتعلمها براهو.. وقلت ليهو ماعايزة منكم أي شيء.. وفعلا دربنا النساء على 16 نوعاً من التدريب. وعملنا أي حاجة من الدمورية، وصنعت فستان زفاف من الدمورية، وعايزين نقول إنو أحسن بدل ما تدي زول قروش علموا كيف يستخدم السنارة في الصيد وبالتدريب سنغزو العالم).
بروف “سعاد الفاتح البدوي” التي كانت تجلس على كرسي يتوسط صالون المركز الصحفي كانت تجول بعينيها بين الحضور وهي تبلغهم وصاياها حيناً وقفشاتها أحياناً أخرى، حتى انقضت خمس ساعات من الحكي المتواصل، ولم تنس أن تستصحب معها بعض المواقف الحادة التي تأخذ الطابع الجدي حينما قالت إنها اضطرت ذات مرة إلى ملاحقة نائب برلماني في الجمعية التأسيسية هاجمها عندما اعترضت على دخول اليورانيوم المخصب للبلاد، وقالت إنها طاردته بـ(جزمتها الحمراء)، ولم يستطع كل الرجال الموجودين إيقافها، وعندما التفت لها الرجل سألها وهو يجري (إنت عايزة تضربيني؟) قالت له: (أيوة بدقك بجزمتي دي).

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية