قصص محفوظة منذ طفولتي
التجانى حاج موسى
عمري كان ست سنوات، كان بي نهم شديد لمعرفة كل شي، هذا الأمر سبب لي الكثير من الزجر من والدتي – رحمها الله – حفظت الذاكرة العديد من المشاهد التي لم يصبها النسيان، مثلاً قصتي مع عم “أحمد اليماني” صاحب الكنتين المجاور لمنزلنا، ذهبت إليه لشراء موس حلاقة كانت تستخدمها أمي لفصادة والدها جدي ود أبو زيد وحجامته أسفل رأسه وأرجله، كنت أشاهد تلك العملية للدرجة التي يمكن القيام بها الآن. عم “أحمد اليماني” خطب مني أمي (داير أتزوجا على سنة الله ورسوله) يومها غضبت غضباً شديداً وأخذت أرميه بالحجارة وكان يتقيها بيده وهو في دهشة من أمره.. يومها تجمع أهل حينا يصرفوني عنه إلى أن جاءت أمي واستفسرت عن الحاصل شنو.. أخبرها عم “أحمد اليماني” فتصدت له قائلة (يا ود الحلال أنا ما دايرة عرس.. أنا راجلي ولدي “التجاني”!!) لازال وقع هذه الجملة في أذني والمشهد بكل تفاصيله أمامي الآن، وحينما كبرت قليلاً عرفت سبب ذهابي للعمل بالسوق أبيع أكياس ورق جوالات الأسمنت وأعود آخر النهار بالخضار واللحمة والرغيف وما زاد تضعه أمي في حرز أمين، لذا تجدني أحترم الأطفال الذين دفعتهم ظروف مشابهة لظروفي وأدركت قيمة العمل والكسب الحلال.. بالمناسبة تمت عدد من الزيجات من اليمانيين من سودانيات ومنهن من رجعن مع أزواجهن بعد أوبة اليمانية إلى اليمن بعد أن انصلح حالها اقتصادياً.. وأنا في ذلك العمر الفضي كنت أحب المطر لا سيما ذلك الذي يسقط بالليل.. كنت أختلس فروة جدي لأتغطى بها والمطر يتساقط كأنه إيقاع موسيقى.. أدوني علقة سخنة لهذا المسلك.. أمي وبختني قائلة “أنت ما عارف الصاعقة بتجي مع المطرة؟” بعدها اكتفيت بمشاهدة البرق وصوت الرعد وزخات المطر.. والخريف في بلدتي “الدويم” موسم للجمال والخير.. والأرض تلبس حلة خضراء، ولا أنسى نباتاً جميلاً يخرج أزهاراً بنفسجية اللون يحفها بياض كنا نقتلعه طعاماً وعلفاً للبهائم، وفي المساء كنا نطارد حشرة الجوهرة التي تشع نوراً وأحياناً نصطاد بعضها لنلعب بها ولم نسبر سر ضوئها حتى الآن.. سبحان الله.. سألت أمي: منو البزرع البطيخ والعجور والتبش والحميض في الخلا؟ حدثتني أمي أن هذه الزراعة تحدثها الطبيعة فالرياح تنقل البذور ويطمرها التراب ثم يسقيها المطر!! سبحان الله وأرضنا تشهد المحل والضيق والاحتراب والمسغبة.. والله العظيم في ذلك الزمان كنا ندلق اللبن نحلبه من ضروع السعية فيفيض عن حاجتنا فندلقه بعد أن نعب منه القرب والسعون ونهزه فيخرج لنا زبدة وسمناً.. أمي منذ أمدٍ بعيد كانت ضد ختان الإناث.. سألتها: ليه يا أمي؟ قالت: أنا شفت “ميري” الجنوبية ولدت براها.. جابت الصابون والموس وسخنت الموية وولدت براها!! و”زهرة” ماتت تحت ايدين الداية وده كلو بي سبب طهور البنات!! وأجزم أن أمي اكتسبت هذه الثقافة من أمها حبوبتي “فاطمة بت الفكي”، فقد كانت حكيمة فرشت في سوق الدويم محلاً صغيراً لبيع الويكة والبصل والمرس والهبابات والمقاشيش، وكانت تقوم مقام جدي في كثير من الأحيان.. قالت مرة في أمسية قمرية ونحن ملتفون حول عنقريبها تطعمنا كرامة البليلة من حبوب اللوبيا والكبكبي والفريك بخلطة زيت السمسم والسكر.. تعرفوا يا بنات المره ما زي الراجل كلو كلو!! الراجل بدفن الجنازة وممكن يتعبد ويصلي لمن يموت!! لمن كبرت عرفت معنى قوامة الرجل على المرأة التي أتي بها ديننا الحنيف!! (الرجال قوامون على النساء).. وذاكرة طفولتي مليئة بالذكريات وأنا ابن الخامسة سألت أمي عن قصة عدم أكلي للحوم.. قالت لي: عمرك سنتين كنا بنسلق ليك ضنب الخروف وكنت بتسنن والمرحوم أبوك كان فرحان بيك وسماك “أحمد التجاني” تيمناً بي شيخ الطريقة التيجانية وأبوك جا من فاس الما وراها ناس مع جدك ناس طريق ودين جا الدويم وبني لينا البيت ده واتزوجني وجبتك أنت الوحيد.. كنت سمين وبندسك من العين.. أبوك مات فجأة وما لحقنا ندسك الناس لمو، في مرة شافتك ماسك الضنب أدتك عين ومن يوما ما أكلت لحم!! هنا آمنت بالعين.. لذا من يوما ما أنفك لساني عن قول (ما شاء الله.. ومن شر حاسد إذا حسد). وكبرنا عشقنا النيل الأبيض والسباحة وأجدناها وأقمنا سباقات العوم بأنواعه برغم تحذير أهلنا من السباحة في النيل.. كنا قد تعلمنا العوم بواسطة أستاذ التربية البدنية “هاشم بدر الدين” أمد الله أيامه.. والسباحة كانت مقرونة بصيد السمك الصنارات الصغيرة للسمك الصغير ومتوسط الأحجام والكبيرة نربطها في خيط قوي ونقذف بها مسافة بعيدة عن الشاطئ في عمق النيل.. كنا نستخدم في الرماي هذا الأسماك الصغيرة طعماً ونعود في المساء بالصيد الوفير يكفي الأسرة لأيام ونهدي بعضه للجيران.. شوفوا كيلو السمك هسي بي كم؟؟ في ذلك الزمان الجميل كان البنطون أو المعدية مهرجان فرجة وسوقاً رائجة لنا والعابرون من شرق الضفة يحملون زجاجات السمن البلدي والقشطة والروب وبيض الدجاج والحملان والخراف، نشتري منهم نلتقيهم بالمعدية ونبيعهم الحلوى والصابون والطرابيز الصغيرة التي أصنعها في ورشة أخي من أمي المعلم سليمان –له الرحمة- وكان لنا وله في القراءة لا نبخل على أنفسنا بشراء مجلات سمير وميكي والصبيان وقصص كامل كيلاني وسلسلة كتاب إقرأ ودواوين الشعر حينما كنا بالمرحلة المتوسطة.. هنا قفزت في الذاكرة قطية السِّم التي بناها المستعمر بالقرب من المقابر لأغراض مبيدات البعوض، كانت مهجورة وسمعنا قصصاً تفيد أنها أصبحت سكناً للجان والبعاعيت – جمع بعاتي – اللفظ كان يطلق على الذين يقومون من موتهم في ليلة مقمرة، قررنا سبر غور قطية السم كنا ثلاثة أصدقاء وكنت المحرض لزميلي في كسر باب القطية وكنا نحمل بطارية تضئ بالحجارة، كم كانت لحظات مخيفة ونحن نعالج فتح بابها الذي استعصى علينا فتحه وبعد معاناة كسرنا قفل الباب وأضئنا داخلها وأنوفنا تشتم رائحة العطن عندها فزعت مجموعة من الفئران الضخمة يطلقون على الواحد منها (الجقر)، هربت جزعة وعلى عرش القطية تحركت وطاويط وعناكب.. وفي الصباح حدثنا رفاق الصبا عن مغامرتنا والقطية لتنتهي أسطورتها بعدها بأيام عزمنا على مطاردة بعاتي انتشر خبر قيامه من القبر سرت قصته في المدينة يهاجم الناس بالليل.. اختبأنا بالمقابر نقاوم الرهبة والخوف وعند سماعنا لصياح “البعاتي” عدونا جرياً ناحية الصياح.. كائن غريب يجري وراء سمار من شاطئ جنينة كانت منتزه المدينة حتى حلة البحر، وحينما شعر بنا التفت ناحيتنا ظناً منه أننا سنولي الأدبار، لكن تماسكنا بعمود الكهرباء إلى أن كشف غطاءه المصنوع من جلد ماعز وقال: (أنتو ما بتخافوا يا شياطين)، وعرفناه وأخذنا منه عهداً ألا يفعل فعلته وإلا حدثنا أهل المدينة.