نأسى لحزب
يتملكني أسى وحزن عميق على بعض أحزابنا الوطنية التي ملأت الوطن يوماً بالشعارات وكافحت وناضلت وسدت آفاق الدنيا بالهتافات والندوات والأشعار والحديث عن الديمقراطية والحرية ونبذ العنف وسيادة دولة العدل والإحسان، ولكن أحزابنا الوطنية تتلاشى اليوم وتندثر، ومن تلك الأحزاب التي يأسى الإنسان لما انحدرت إليه، الحزب الشيوعي السوداني بكل إرثه النضالي وسط طبقات العمال والمزارعين وفي المدارس والجامعات ووسط الطبقات الشعبية والوسطى، والحزب الشيوعي ما كان حزباً جماهيرياً عريضاً يحصد الأصوات في الانتخابات ويحوز على دوائر التمثيل مثل أحزاب الأمة والاتحادي الديمقراطي، ولا كان حزباً شعبياً في القرى والأرياف له نصيب من الأنصار والأتباع، ولكن الحزب الشيوعي كان حزب تأثير على الحركة السياسية في البلاد بعمقه المعرفي وإعلامه وشعراء اليسار العريض والمغنين حتى كان واقع بلادنا في ستينيات القرن الماضي يجعل من الانتماء إلى اليسار انتماءً إلى التنوير والتثقيف، وقد تداعى لاحتضان الحزب الشيوعي المثقفون والمبدعون والعاملون بالقطاع الصحي والصناعي والصناعة في “عطبرة” و”الخرطوم” و”جوبا”، ولكن وآه من لكن، وما أمرّ الآهات في
بلادي،
الحزب الشيوعي لم يحترم تاريخه ولا إرثه ولا وعي قادته ومفكريه عبر حقب التاريخ البعيد والقريب وحار بالرفاق الدليل وهم يتخبطون اليوم في متاهات الدروب ويضعون الحزب بكل هذا الإرث والتاريخ تحت قبعة حركة عسكرية مسلحة لا تمثل إلا إقليمين في بلاد متعددة الأقاليم وتنطوي ممارساتها على أبعاد عنصرية مهما أضفت الحركة الشعبية الحالية على نفسها من أصباغ تجميلية واجتهدت قيادتها في الظهور بصورة غير جوهرها، ولجأ لأحضانها المغبون والمطرود من وظيفته والباحثون عن مجد يرونه في أهداب الحركة الشعبية، تبقى في أصلها حركة احتجاجية لمجموعة من الأثنيات في “النيل الأزرق” و”جبال النوبة”، ولم تفلح الحركة الشعبية حتى اليوم في الحصول على ثقة جميع مكونات الإقليمين، بل قاتلها أبناء النوبة كما لم يقاتلها آخرون، وتصدى لأحلامها “البقارة” و”الحوازمة” و”المسيرية” في “كردفان”، وتصدى لها “البرون” و”الهمج” و”الوطاويط” و”القمز” في “النيل الأزرق، فكيف يقدر الحزب الشيوعي أن هذه الحركة بمقدورها أن تحمله على أسنة رماحها إلى مقاعد السلطة والحكم في بلاد لا يجد الفكر المنبت في ترابها الصوفي.
الأسى على حال الحزب الشيوعي السوداني تبدى جلياً في مفاوضات “أديس أبابا” التي جرت خلال الأيام الماضية وقد تداعت قيادات الحزب الشيوعي إلى فندق “ماريوت” بوسط “أديس أبابا” يتأبطون الأوراق ويتقربون زلفى لقيادات الحركة الشعبية الذين يصدون عنهم طوراً ويمنحونهم ابتسامات خادعة وينصرفون عنهم لما يشغلهم من شؤون التفاوض.. بل إن قيادياً كبيراً يجلس في ركن قصي في القاعة الصغيرة المخصصة لجلسات التفاوض وفي الطاولة الرئيسية يجلس “ياسر عرمان” و”مني أركو مناوي” و”أحمد تقد لسان” ومن خلفهم قيادات الحركة الشعبية الوسيطة الجنرال “عمار آمون” و”أحمد عبد الرحمن سعيد”.. وبعيداً عن هؤلاء يجلس عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي ينتظر أن يقول “ياسر عرمان” كلمته و”مني أركو مناوي” يتلو خطابه ليصفق مع الآخرين المشجعين الذين يتحلقون حول قاعات التفاوض.
نجح “ياسر عرمان” الذي غادر مفاصل الحزب الشيوعي التنظيمية يوم كان على قيادة الحزب “التجاني الطيب” و”عز الدين علي عامر” ولكنه اليوم يقود الحزب الشيوعي من خارج جهازه التنظيمي ويفلح في وضعه تحت برنيطة الحركة الشعبية ويفعل به ما شاء له والحزب راضٍ بنصيبه من التصفيق والهتاف والتشجيع مثل عاشق كرة القدم في جزر القمر الذي يموت في حب فريق ريال مدريد وبرشلونة.. والحزب الشيوعي الآن يحب الحركات التي تحمل السلاح ولا يحب العودة للمزارعين في الجزيرة ولا عمال المصانع في الباقير ويخجل من خوض الانتخابات العمالية وقد فقد فرص التغلغل وسط العمال فاختار الانتحار في قارعة طرق الجبال الشاهقة وكتابة نهاية لحزب كان له صوت وبريق لكنه اندثر وتلاشى إلى مشجع لحركات مسلحة لا تملك شيئاً من الذي يملكه الحزب الشيوعي في الزمان القديم.. والأحزاب مثل الأفراد تشيخ وتندثر وقديماً قيل الأيام دول ومن سره زمن ساءته أزمان.