حوارات

المفكر والسياسي المعروف (المحبوب عبد السلام) يضع القضايا تحت المجهر:

 المحبوب رجل معروف باهتماماته الفكرية والثقافية، ومن هذا المدخل ولج إلى عالم السياسة، وهو من المنظرين القلائل لمسار الإنقاذ قبل المفاصلة، بعدها اختار لنفسه مساراً جديداً لم يبعده عن فكر حركته كثيراً، (المحبوب) فضَّل أن يكون  جغرافياً بعيداً عن مواقع الأزمة، فيما ظل عملياً ناشطاً ومهتماً بتفاصيل ما يحدث من تطورات سياسية في السودان في الجانب الآخر، ويعتبر من الإسلاميين الذين حاولوا تقديم انتقادات لتجربتهم في الحكم، إضافة لقناعات أخرى فيما يتعلق بمسألة تداول السلطة.
 (المجهر) التقت (المحبوب عبد السلام) بشقته في القاهرة وطرحت عليه جملة من القضايا الراهنة وغيرها.

{ هل ما زلت عند مقولتك إن الإنقاذ انتهت في 12/12/1999م أو في الرابع من رمضان؟
_ بالطبع نعم، الإنقاذ وحتى أكون دقيقاً كانت بتدبير من (الحركة الإسلامية)، ولكنها خرجت إلى العلن مع حركة وطنية لا تنتمِ لحزب بعينه، ومضت على ذلك في فترة التمويه.
{ لكن فترة التمويه لم تستمر طويلاً لأن الشعب السوداني اكتشف متبنييها بسرعة؟
  – الشعب السوداني ذكي لا سيما السياسيين الذين أدركوا ومنذ الوهلة الأولى أن (الحركة الإسلامية) تقف خلف هذا الانقلاب، هذا جانب، لكن هناك جانباً آخر وهو أنك تضع سلطة في يد عسكريين وتطلب منهم أن يظهروا للعلن وكأنهم يمسكون بكل شيء، وفي الباطن أنت من تحرك هذا العمل.
{ تقصد أن عملية الإخفاء كانت صعبة؟
– في معادلة السلطة صعب أن تحفظ هذا الشكل من المسرحية، أن يكون هنالك ملقن خلف خشبة المسرح أو تحتها، هذا شيء صعب في السياسة، إذا أردت أن تسترد تفويض سلطتك السياسية فوفقاً لإحدى نظريات العلوم السياسية  هذه العملية لا تتم بالسلاسة التي فوضّت بها السلطة، لأنها أول ما تقع في يد مجموعة ما، أو قائد ما، تكون لها معادلاتها التي تمنح هذا الشخص قوة تفوق مقدراته الشخصية، وهذا ماحدث لمجموعة قيادة ثورة الإنقاذ، حيث مُنحت قوة مضاعفة، لأنها وفور استلامها السلطة قامت بتحريك الماكينة كلها، فكان اعتدادها كبيراً بالقوة المسلحة (القوات المسلحة وأجهزة الأمن)، ومهما كانت الأوضاع انتقالية فإنها تجعل المؤسسات هشة، لكن في النهاية هم يكونون ظاهرياً على مسرح السلطة السياسية وتؤول إليهم القوة، هذا هو التحالف وجوهر العلاقة بين (الحركة الإسلامية) والعسكريين المنتمين إليها في ذلك الوقت، وأنت لو تذكر في ذات مقدمة كتابي التي أشرت إليها في سؤالك، أشرت للأمثلة التي انبثقت منها ذات النظرية.
{ عن أية نظرية تتحدث؟
–    نظرية تفويض السلطة من قوة باطنية إلى قوة ظاهرة، أشرت إلى حزب (البعث) مع (ميشيل عفلق) وإلى تجربة (لينين) مع (ستالين)، وهذا تاريخ مهم في نشأة الدولة السوفيتية، وكان غير معروف لأننا كنا نطلع على النسخة الروسية من الماركسية ومن تاريخ الدولة السوفيتية، لكن عندما بدأت النسخة الأوروبية تظهر، عرفنا أن سنوات (لينين) في الكرملين كانت فيها أزمات كبيرة بينه وبين (ستالين) لا سيما في العام الأخير، وحدث ذلك في الثورة الصينية، تجد أن رجال الدولة دائماً ما يفوزون على حساب المفكرين والمنظرين.
{ وكأنك تريد الربط بين هذه التجارب وتجربة الإنقاذ السودانية؟
–    بالنسبة للإنقاذ، استطعنا أن نحفظ هذه المعادلة لمدة (10) أعوام، لكننا لم نستطع حفظها حفظاً مطلقاً.
{ لماذا؟
– أنت لو تذكر في العام الأول لثورة الإنقاذ قدم ثلاثة من أعضاء مجلس قيادة الثورة استقالاتهم، عثمان أحمد حسن ومعه اثنان آخران، عثمان كان متقدماً في هذه المجموعة التي استقالت لأنها كانت ترى أن يكون عثمان هو رئيس للجنة السياسية، وتوضع القرارات باسمه ويوقع عليها، كان عثمان  يعتقد أن هذا نمطاً مستحيلاً من أنماط إدارة الدولة، ولذلك (خرج)، وظلت هذه المفارقة قائمة أشبه بـ (القيم) (Game) مثل مباراة لكرة القدم، حيث تجد فيها التجاوزات والأخطاء (الفاول) و(التسلل) وحتى عدم الانسجام، وبالضرورة الإنقاذ لم تكن منسجمة حتى بعد أن خرج (الترابي)، وفي تقديري هذه المعادلة انتهت في يوم 12/12/1999م.
{ مقاطعة: ولكن البعض شبه ما حدث بالحيلة الماكرة.. البعض قال إن هؤلاء العسكريين هم جزء من تنظيم ويؤدون ما يكلفون به.. ولكن السؤال هنا لماذا حدث ذلك؟
_  هذه سنة، مسألة أن تفوض سلطتك وفي نفس الوقت عبر هذا التفويض تسيطر سيطرة كاملة، وتستعيد سلطتك أو قوتك وقتما شئت، ظننا أن عساكرنا مختلفون وأنا أشرت إلى علم الاجتماع الذي ناقش هذه الظاهرة، وهي بالمناسبة ظاهرة تاريخية مستمرة منذ (خالد بن الوليد) إلى (محمد بن عبد الوهاب) و(آل سعود) إلى (ميشيل عفلق) وحزب البعث وتجربة (النميري) والحزب الشيوعي.
{ لكنكم لم تستفيدوا من التجارب الأخرى ووقعتم في ذات الأخطاء؟
–    الغريب أن التجارب كانت ماثلة أمامنا، لكن ظننا أن هؤلاء الذين انتموا لـ(الحركة الإسلامية) يختلفون جوهرياً، لكن أنا شخصياً لم تكن لدى (أوهام) في هذا السبيل.
{ لماذا؟
–    لأنني كنت أدرس علم الاجتماع، وأعرف أن (العسكري) لا يتغير جذرياً، واحد أكبر قياداتهم ذكر لواحد من أكبر قيادات (الحركة الإسلامية) هذا الأمر بطريقة بسيطة…
{ مقاطعة: هل يمكن أن تعطيني أسماءً لأننا في الحقيقة نوثق أيضا للتاريخ؟
_ جيد، ولكن لا بد أن أحفظ الأسماء حتى لا أحرج بعض الناس في هذه المرحلة، ولكن أقول لك أحد كبار العسكريين قال لرجل من شيوخ الحركة الإسلامية (أنتم أدخلتموني في الحركة الإسلامية وأنا برتبة رائد، والعسكري حينما يصل إلى مثل هذه الرتبة من المستحيل أن يصبح (أخو مسلم).
{ يبدو أن رؤيتك كانت متقدمة بعض الشيء؟
_ أنا أصلاً كنت أعد لنيل الدكتوراه في علم الاجتماع حينما أتيت إلى السودان، وانخرطتنا في عمل مباشر مع العساكر الذين كانوا يقودون النظام..
{ مقاطعة: لماذا لم تبد وجهة نظرك منذ البداية؟
_ كانت المرحلة الأولى للثورة بها تحديات كبيرة، وكانت التجربة مهددة بالانهيار، فلا بد من حشد كل الطاقة للمحافظة عليها، حتى فقط يمضي العام الأول فالثاني، أقصاه العام الثالث ليتم بعده تداول سلمي للسلطة.
{ هل تم تغليب المصلحة على الفكرة؟
_ في بداية الإنقاذ الناس كانوا على قلب رجل واحد، وكانوا يظنون أن لهم مشروعاً لإنقاذ السودان، ولتصحيح التاريخ الإسلامي منذ الخلافة الراشدة.
{ هل شمل هذا التصور العسكريين وغير العسكريين؟
_ نعم، هم كانوا يعتقدون أن التاريخ الإسلامي منذ أن كسب الجولة (معاوية بن أبي سفيان) في نزاعه مع  (علي أبي طالب)، وأصبح الحكم كما تقول كتب التراث (ملكاً عضوداَ) (انحرف) سياسياً.
{ وانطلاقاً من هذا الفهم.. ماذا كنتم تريدون أن تفعلوا أنتم؟
–    كنا نريد تصحيح هذه المعادلة، مثلما توهم (ماركس) الهبوط بالفلسفة من السماء إلى الأرض، ووضع (الدنيا بالديالكتك) الذي كان مقلوباً على نحو مستقيم، كنا نظن أن هذه التجربة الإسلامية في السودان بما لها من زخيرة ضخمة من البشر والطاقات والمعارف تقوم بتصحيح التاريخ الإسلامي، وطبعاً كان ذلك (وهماً)، مثل وهم أن العسكريين يمكن أن يكونون بعضاً من التنظيم ويطيعون كل أوامره كل الوقت.
{ نحن الآن نعيش في ذكرى أحداث (30) يونيو.. أريد معرفة بعض من أسرارها؟
_ أنا شخصياً لم أكن بعضاً منها، حيث كنت بعيداً عن السودان ومنذ سنوات، ولكن (أكيد) يوجد أشخاص من (الحركة الإسلامية) كانت لهم أدوار مهمة، وبالتأكيد فإن (30 يونيو) كان تدبيراً كاملاً من (الحركة الإسلامية)، حيث اجتمع مجلس الشورى الداخلي للحركة وفوض (7) من قياداتها لاتخاذ ما يرونه مناسباً، وكانوا يعلمون علم اليقين أن ما يرونه مناسباً هو الاستيلاء على السلطة عن طريق الانقلاب العسكري، وكذلك فعل مجلس (شورى الجبهة) الإسلامية القومية، وهذا أوسع بكثير حيث يضم (300) شخصاً، وهؤلاء أيضا فوضوهم، فهم يعلمون أن الحيثيات تقول إن البلاد تتناقص من أطرافها وإن حكم (الصادق المهدي) فاشل بالكامل، وإن (جون قرنق) يتقدم كل يوم، والبعثيون بصدد قيامهم بانقلاب عسكري وكذلك حزب (الأمة)، معلومات كثيرة جداً قدمت، ثم انتهت كل هذه الحيثيات إلى قرار بأنه لابد للحركة الإسلامية أن تسارع للاستيلاء على السلطة.
{ هل كان أمر الانقلاب معلوماً لدى مجموعة كبيرة من الإسلاميين؟
   – كان لا تستطيع في حضور (40) أو (30) أن تقول هذه العبارة، لكن كان مفهوماً جداً لهم جميعاً أن هؤلاء الـ(7) سيدبرون أمر الانقلاب، وهذا ما حدث بالفعل، حيث كان ذلك قراراً سياسياً، ولكن العملية الفنية حول من الذي سيتولى تشغيل أجهزة بث (الإذاعة) و(التلفزيون) وهذه مسألة مهمة، وأيضاً العملية العسكرية نفسها من الناحية الفنية وحراسة الشخصيات، كل ذلك أخذ نصف العام من الإعداد داخل المكاتب الخاصة للحركة الإسلامية. هنالك أمر مهم جداً حول تاريخ (الحركة الإسلامية) وهي مسألة التنظيم الخاص ومسألة مكتب المعلومات وأجهزة الطوارئ، كل ذلك موضوع كبير جداً في تاريخ (الحركة الإسلامية) السودانية، ويمكنني أن أشير إلى ما حدث بالنسبة لتاريخ (حسن البنا)، حيث أن الجهاز الخاص الذي صنعه (البنا) ورغم قلة السنوات وحداثة التجربة تحول وكأنه أطلق جنا من قمقم، تحول إلى خطر يهدد التنظيم، ومقولة البنا الشهيرة أنهم ليسوا بإخوان ولا مسلمين، ولكن تجد أن الجهاز الخاص أخذ في التفاعل، حيث أنه يحكم اليوم في مصر، عناصر الجهاز الخاص تدير الإخوان المسلمين، وتدير حزب (الحرية والعدالة).
{ إذن هذه مسألة مهمة؟
–    هذه قصة طويلة ومهمة وتحتاج إلى بحث، وإلى أشخاص أو جماعة من داخل (الحركة الإسلامية) يقومون بإكمال هذه الومضة أو الكوة الصغيرة التي فتحها الأستاذ (فتحي الضو) في كتابه (الخندق) هي قصة كبيرة ومعقدة. و(فتحي الضو) تطرق إلى موضوع مهم في كتابه الوثائقي، حيث تطرق إلى زاوية واحدة وفترة متأخرة من عمر هذا العمل الخاص الطويل..
{ إذن الاستيلاء على السلطة كان نتاجاً لعمل امتد منذ ما قبل 30 يونيو؟
_ مجرد أن حدث انقلاب مايو، بدأ التفكير داخل (الحركة الإسلامية) وهو تفكير كان سائداً في تلك الفترة، وشمل كل أحزاب العالم الثالث، يقول إن الحزب أي حزب ما لم يكن له جناح عسكري وجناح معلوماتي، فهو حزب غير جاد ويوصف بأنه حزب صالون، ليس حزباً جاداً يسعى إلى الاستيلاء على السلطة، كان هذا هو المناخ، وبعد ثورة أكتوبر كانت هناك آراء.
{ مِنْ مَنْ جاءت هذه الاقتراحات؟
–    تحديداً من (يس عمر الإمام) وآخرون، فهؤلاء رأوا ضرورة تأسيس عمل عسكري حتى تكون هنالك جدية، لكن كان رأي الشيخ (حسن الترابي) آنذاك وعدد من الأكاديميين أغلبهم من أساتذة جامعة الخرطوم كان مختلفاً، وكان (يس عمر) يسميهم الأكاديميين ليس تهكماً ولكنه اعتبرهم نظريين جداً، ويرى أن من يرد ملامسة الواقع، لابد أن ينشئ له خلايا في الجيش ويكون لديه جهاز للمعلومات يقوم باختراق الأحزاب الأخرى.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية