رأي

في صحبة "الفيتوري".. امش تحت حوائطهم تكتمل!!

على ناحية البحر المحيط أرى ضاحية (تمارا) غير بعيد من مدينة الرباط العاصمة المغربية. لعل رائحة الورد ومناظره أوحت إليّ أن فللها البيضاء المتناثرة تشبه شجرة من الفل تفتقت لتوها زنابقها بُعيد مغيب الشمس وقد ودع الشفق الأفق.. تقوم فيلا صغيرة تحمل الرقم المحلي كما تحمل اسم (أشرقت) ابنة الشاعر العربي المجيد “محمد الفيتوري”.

هنا يقيم الشاعر الكبير، حيث حملتنا سيارة الأستاذ “طلحة جبريل” الزائر المنتظم لهذا المكان، كأنه حمل عن السودانيين جميعاً دين العناية بـ”الفيتوري”، إذ قصروا ويقصرون في زمان القُصر.. استقبلتنا زوجته “رجات” رفيقة الشاعر في العقود الثلاثة الأخيرة، من القاهرة إلى بيروت إلى الرباط على قلق كأن الريح تحتي، قلق الشعراء الكبار في الزمان المضطرب، هذه السيدة العظيمة كأنها حملت بدورها عن العرب جميعاً واجب الهمّ بالشاعر العظيم، فرغم ولعها بالسودانيين وحبها الكبير لهم، ورغم توالي الزوار من الصحفيين والرسميين وتعدد فقرات التلفاز التي صورت الشاعر والبيت والأسرة، رغم كل ذلك ظلت الزوجة الوفية تستغرب أن تقرأ في صحف السودان وفي مواقع السودانيين الألكترونية أن “الفيتوري” منح جوازاً سودانياً وأنه سيزور السودان قريباً، حيث يُكرّم التكريم اللائق به، ولكن لا أثر للخبر في واقع الأمر. وفي الظرف الصحي الدقيق بالغ الدقة الذي يمر به الشاعر، والجوازات تمنح كل ساعة والطائرات الخاصة تحمل وتُحمل لمن هم أقل قامة وشامة من “الفيتوري” بكثير، لولا أن زماننا كزمان “الفيتوري”: (زمني يا أخت هواي عجب.. موسم جوع وجبال ذهب).

تزدحم صالة منزل “الفيتوري” بالأوسمة وصور التكريم من الزعماء والقائمين على المؤسسات الثقافية والمواسم الشعرية التي يسترجعها “الفيتوري” جميعاً مثل طيف بعيد، ويبقى حلم واحد أرجو أن لا يكون بعيد المنال.. أن تهبط عند هذه النواحي طائرة خاصة تحمله بجوازه السوداني إلى الخرطوم، يرافقه ويستقبله بعض من أولي العزم، فما زالت منهم بقية، وأن يرتب كل شأن من شؤون الزيارة بدقة نسبة لدقة ظرف الشاعر، من عدد الأيام إلى الفندق، إلى الوقت الذي يستغرقه التكريم، ثم يعود الشاعر إلى (تمارا) وتبقى للسودانيين والعرب والأفارقة ذكرى جديرة بالتذكر في زمان تعزّ فيه الذكريات.. بقي أن أقول بين كل الصور والمشاهد والأوسمة والميداليات، استرعت انتباهي لوحة زاهية الألوان لزهرة يانعة تزدحم تحتها سطور من الخط الكوفي الحر لا ريب أنها أبيات “الفيتوري”:

نهر فاغتسل أيها المغتسل

آية العاشق الفرد أن يمتثل

ولقد يصل الماء أو لا يصل

والمدى نجمة في المدى ترتحل

فاسقهم من روحهم تشتعل

وامش تحت حوائطهم تكتمل

 

كيف اختارت الفنانة التونسية التي أهدت هذه اللوحة للشاعر– كما حدثتنا زوجة الفيتوري- كيف اختارت هذه الأبيات الأثيرة عندي، سوى أن كلمات “الفيتوري” مثل اللآلئ والمرجان، (لغة أخرى غير الخزف الشرقي) كما يقول هو. لكن فيها كلمات تضيء مثل تاج الصوفي في ياقوت العرش.. ستمر أجيال من الناس تقرأ شعر “الفيتوري” وتدرسه وتستخرج من أعماقه المصابيح الدراري مما لم يستبن لأجيالنا، وستذكر (تمارا) المغربية أن شاعراً عربياً عظيماً مرّ من هنا، هو قطعة نادرة من تاريخ الأدب العربي حيث يسكن “المتنبي” و”أبو العلاء” و”البحتري” وغيرهم من المضيئين كالنجوم:

وتقطع هجرتها أسراب الطير

وتجف مياه البحر

والغربال المثقوب على كتفيك

وحزنك في عينيك

جبال ومقادير وأجيال

لا تسألني يا محبوبي

يكفيك ويكفيني

فالحزن الأكبر ليس يقال

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية