عودة "الدرديري"
منذ مغادرته لأمانة العلاقات الخارجية في حزب المؤتمر الوطني التي لم يمكث فيها طويلاً.. حمل “الدرديري محمد أحمد” متاعه القليل وانزوى بعيداً عن أضواء السياسة وبهرجتها وعراكها الذي يطلقون عليه، (تدافع) تدليلاً وتجميلاً لمعارك بدون أسلحة، تدور بين القادة ويذهب ضحاياها في الغالب من تعصمهم أخلاقهم وقيمهم من السقوط الأخلاقي باستخدام الأسلحة القذرة.. و”الدرديري محمد أحمد” لم تبعده عن واجهات السلطة والحزب، خطايا ولا فساد، ولكن أبعدته رؤيته الثاقبة لمآلات الأوضاع، وكثيراً ما ذهب أهل النظر والفكر ضحايا لعمق بصيرتهم ونفاذ فكرتهم، وساد الساحة أهل الفعل الذين يملكون القوة، والنفوذ ويجيدون لعبة إقصاء الذين يتدبرون ويتفكرون في دروب السياسة.
“الدرديري” واحد من الذين (صاغوا) اتفاق نيفاشا في ليل الأسى، كما يزعم “حسين خوجلي”، في تجلياته التعبيرية الباذخة، ولكن نيفاشا أصبحت في آخر الزمان (خطيئة) “علي عثمان” أو هكذا يزعم المتنطعون، لا يقترن اسم “علي عثمان” بالشيخ، ولا النائب الأول، فكيف حال “الدرديري محمد أحمد” والدبلوماسي الذي (نزل) معترك التفاوض وحلبة نزال السياسة، بقناعة من تذوق مرارة الحرب، وقد ترامت أمام ناظريه بقريته “الفولة”،أحزان الأمهات اللاتي فقدن فلذات الكبد في حرب عبثية، المنتصر فيها مهزوم.. فكر “الدرديري” وقدر أن مرارة الحرب في النفوس لا يغسلها إلا سلام، مهما بدا بعيداً، فالمستحيل ليس ألمانيا.. كما زرع الفلاسفة في مخيلة شعب (الجيرمان).
عاد “الدرديري” من نافذة الحروف والرأي في الصحافة، بمقالة في ظاهرها منافحة معلنة عن دستور 2005م، ومنهج اتكاء الدستور على القانون.. وكيف أن وثيقة الحقوق الواردة في الدستور والتي صاغها كبار رموز القانون والسياسة في البلاد من مختلف طيف البلاد الفكري والسياسي، وتراص السياسيون من أقصى اليمين إلى يسار اليسار، مؤيدين لتلك الوثيقة.. ووضع “الدرديري” أصابع يديه بشجاعة وأمانة على جرح نازف وخروقات كبيرة في الممارسة، وما جاء من بعد ذلك من قوانين، سلبت نصوصاً ناصعة البياض في دستور 2005م، ووثيقة الحقوق التي بها يباهي السودان ويفتخر، وقد أحدثت تلك التطورات الدستورية والسياسية في بلادنا أثراً على صعيد مجلس حقوق الإنسان، الذي (خفف) من حدة توصيف ما يحدث في البلاد مما يسميه (انتهاكات بشعة لحقوق الإنسان)، تستوجب وضعه في حيز الوصاية الدولية من خلال البوابة رقم (4)، إلى الارتقاء خطوات ليقف السودان عند البوابة رقم (10) باعتباره دولة تستحق المساعدات لتطوير أوضاع حقوق الإنسان وترقيتها.
“الدرديري” في تشريحه للأسباب التي دفعت سياسياً وقانونياً ورجل دولة في مقام، البروفيسور “علي شمو”، وزير الإعلام الأسبق ورئيس مجلس الصحافة لسنوات، للقول جهراً، ومن خلال لجان الحوار بقاعة الصداقة (لا بد من حذف كلمة وفق القانون)، والتي عدها “شمو” (درباً) من (دروب) سلب ما منحه الدستور باليمين من خلال القانون، الذي يأخذ بشماله كل فضائل الدستور، ويدوس عليها بأقدام السلطة الغليظة.. ولكن ما أغفله كلا (الرمزين) أي “الدرديري” و”شمو” أن اللوائح أشد سلباً لما أفسحه القانون، لتصبح دولة الدستور والقانون، فبعدت بأمر اللوائح المنظمة، والتي يتم صياغتها بما يسلب كل الفضائل، وتبدو دولة السودان كالرجل الذي يرتدي جلباباً فضفاضاً ويضع عمامة كبيرة على رأسه، ولكن مسلوب الملابس الداخلية.. يمشي عارياً لمن يقترب منه.. وهكذا استطاعت عقلية السيطرة والخوف من جعل الدستور (راكوبة حاحاية)، وجعلوا من الحديث عن الحريات (دجاجة كاكاية).
سعى “الدرديري” في مقالته الرصينة إلى القول بأن القضاء السوداني استطاع انتزاع حقوق الذين لجأوا إليه في سوابق إيقاف السلطة التنفيذية للصحف بقرارات إدارية، وأن من شأن تلك السوابق اتخاذها وسيلة لمقاومة الإيقاف.
و”الدرديري” هنا.. يسقط عمداً عنصر الزمن حيث يتطاول أمد التقاضي لسنوات، حتى يبلغ مرحلة إصدار حكم ببطلان القرار التنفيذي، وبذلك تعاقب الصحف وتلحق بها الخسائر الفادحة في حال الإيقاف.. وإذا بحثت عن حق التعويض لن تناله إلا بعد عشرات السنين.. فما الذي يحول دون إلغاء القيود المفروضة على الصحف بالقانون، بتعديل وإلغاء كل ما من شأنه فتح أبواب جهنم، على الدولة بيدها لا بيد خصومها.