المناديل أداة التواصل مع الأحبة
طالما لوحت بها الأيادي، وتحاورت معها القلوب
بقلم – عبدالله رزق “أبو سيمازة”
قالت لنا الشرفات:
لا منديله يأتي،
ولا أشواقه تأتي،
ولا الطرقات تختزن الحنينا..
(محمود درويش)
الوظيفة الاتصالية للمنديل، كانت الأصل، ربما ولدت مع معرفة الإنسان للقماش، ومارسها الإنسان، أعني: الإنسانة الأولى، مخترعة المنديل، عبر الثقافات المختلفة، وعلى امتداد التاريخ. المنديل اختراع أنثوي، يجسد رؤية المرأة للعالم وإحساسها به، وتواصلها معه. ربما يتعين على الآثاريين، أن يحددوا ما إذا كانت بنات كوش، قد عرفن شكلاً من أشكال المناديل الملكية، أداة للتواصل مع الأحبة. وظل المنديل، منذ انبثاقه الأول من حاجات الأنثى، رفيقاً للإنسان، في كل مكان، وفي كل حالاته، وحتى وقت قريب.
تخاطب “فيروز”، مرسال المراسيل، قائلة:
“يا مرسال المراسيل
ع الضيعة القريبة
“خدلي بدربك هالمنديل
“واعطيه لحبيبي…..”
وتمضي الأغنية في وصف المنديل وتفصيل ما يحتشد به من “شغل” – يلمح إليه صاحب الطير المهاجر – يكاد يكون السمة الغالبة التي تطرز كافة المناديل، التي طالما لوحت بها الأيادي، أو تحاورت معها، وعبرها، في كل الأزمنة، وكل المناسبات:-
ع الداير طرّزتو شوي
إيدي والإسوارة
حيّكتلّوا اسمه عليه
بخيطان السنارة
بخيطان زرق وحمر
وغناني الصبيان السمر
كتبتلو قصة عمر
بدموعي الكتيبة…
لم يكن المنديل، في كل تجلياته الحياتية بين الأيدي، عبر الأزمنة والثقافات، مجرد ضِلِع أعوج من قماش، أو صَفَقة أو جناح.. فقد اختزن، دائماً، قدراً من طاقة الشغل، البدني والمعنوي والنفسي، وبما يجعله كينونة مبيتة باحتمال الإفصاح.
قال “صلاح أحمد إبراهيم”، يخاطب الطير المهاجر، في رائعته التي تغنى بها الفنان الكبير “محمد وردي”:
تلقى الحبيبة بتشتغل منديل حرير
لحبيب بعيد..
شغل المنديل، يبدأ من اختيار واع وقصدي للقماش ونوعيته وخامته ولونه، وكذلك حرير خيوطه…”خيوطه الحمرا ما صدفة”، ولا أي من مكوناته المادية الأخرى. وما الشغل، غير مكابدة من السهر، وربما مغالبة الدمع، دمع الكتابة، حد الاستغراق الكامل للحبيبة، بكل خبراتها الجمالية والتشكيلية، في اجتراح البوح، بما يضفي قيمة عاطفية مضافة، هي التي ترتقي بالمنديل لمنتج مركب، ذي وظيفة اتصالية، رسالة، بالإضافة إلى وظائفه الأخرى.
إلى جوار الألوان، وما تختزنه من دلالات، تتجذر في الثقافة السائدة، فإن المنديل يحتوي على رسومات، رموز، وحروف ورود، مختلفة الأشكال والألوان، شتى الأبجديات، بعضها، ربما كان متوارثاً، منذ فجر الكتابة وطفولتها، غير أن أشهرها وأكثرها ذيوعاً هو القلب، المشطور إلى أثنين، بسهم نافذ، كعلامة ممعنة في التجريد، تستوحي أسطورة كيوبيد، إله الحب في الميثولوجيا الإغريقية، ما يجعل من المنديل، لا مجرد عمل فني إبداعي، وإنما ظاهرة كونية إنسانية، مفردة لغة عالمية، متجاوزة للثقافات.
للفنان الكبير “سيد خليفة” أغنية شهيرة، مكرسة كلياً للاحتفاء البهيج بالمنديل. فهي بتعبيراتها المحتشدة بالفرح، ولحنها وأدائها الضاج بالحماس، تشكل احتفالاً صاخباً بالمنديل. لا تكتفي الأغنية، بوصفه الفيزيائي، وإنما تقرأه، إذ تتوغل عميقاً، نحو استكناه أسراره،وفضها، وتفكيك شفراته، حد الفضيحة:
المنديل – الهدية: “معناها، إني على بالك!”
وتمضي الأغنية، لتحصي، جملة من وظائفه العاطفية، بالذات، ذات الصلة بتقلبات أحوال الإنسان، وطقسه الداخلي:
لما أسافر يوادع ويشاور،
يشاور يوادع… بالمنديل،
لما اعاتبو يداري
دموعو بالمنديل
لما أغازلو يداري
الفرحة.. الفرحة
الفرحة بالمنديل… الخ
ربما يكون المنديل، قد بلغ أوج مجده برفقة الست “أم كلثوم” في أوج سلطانها، وهو يرتعش أو يزهو منتفضاً في يدها، مثل مفردة أوركسترالية، طاعنة في الوجد والتوتر!
لقد خرج المنديل الملهم من دائرة الشعر والغناء، ومن جميل الرفقة الحميمة، للمغنين والمحبين، معاً. بعد أن استشهد تحت وطأة ثورة تكنولوجيا الاتصال. فقد هيمنت تطبيقات التراسل الفوري، في الويب، على كامل الوظائف الاتصالية، التي كان ينهض بها المنديل في زمن مضى، ربما كان بعضاً مما يوصف بالزمن الجميل. كما أن اتساع تعليم المرأة، وسع أمامها فرص وخيارات التعبير، بعيداً عن أسر الرطانات السيميولوجية، وعجمتها. واستأثرت مناديل الورق، بما تبقى من تلك الوظائف أو القيم الاستعمالية للمنديل المباد.
آخر ما تبقى للمنديل، من مصائر وأقدار، ما يمكن فعله به، هو – ببساطه – رميه، كإيماءة يائسة، تعبيراً عن الانهزام، أو الإستسلام، أو الإنسحاب من منافسة ما.