الديوان

الوظيفة.. حالة عبودية تبررها الحياة المدنية!!

كانت ظاهرة اجتماعية في كلية التربية جامعة الخرطوم دخلت في الناس بسرعة البرق، وكثيراً ما كانت تدعو بنات الداخلية إلى الإفطار بمنزلها في شهر رمضان الكريم، وكانت تقضي جل يومها في جعل التواصل بين الطالب ممكناً وسهلاً مستخدمة موهبتها وذكاءها، فصارت حديث الكلية في قدرتها على المبادرة بالمحبة البيضاء، وشكلت (أتيام) عفوية وأدارت صراعات فكرية كبيرة, قادت تيار (الجندرة) الجارف فحملت عليه (طلاب) الأرياف النائية، وكأنها تجري عملية جراحية في نفوس الرجال، تجعلهم يقبلون النساء على أنهن أخواتهم وأمهاتهم وربما زوجاتهم مستقبلاً، كما جعلتهم يقبلونهن على أنهن ربات بيوت، وعالمات في السياسة والكيمياء والأدب في آن.
بستان وحيد
 كانت “سهير” فريدة في إشعال النقاش الذي يحرر الفرد من عصبيته ويحرر المجموعات من الأوهام. كانت نحلة الكلية  وكانت إنسانة تُذيب المسافات الفارقة بين الناس وتطويها كقطار يسافر على متنه الناس، وجميعهم يشعرون أنه ملكهم. كانت تجمع “الطاهر” من غرب الفاشر، و”إبراهيم أبو الفتح” من بورتسودان، لتنفخ فيهما من روحها وتكشف لهما حجر الزاوية في بناء القومية. تفرح بطفولة لكل “خطوبة” ولكل “عرس”، رغم أنها كانت هي البستان الأوحد فينا.
عرق جبين وضرب يمين
لو نزلت “سهير” في أي انتخابات لفازت بسهولة، رغم أنه لم يكن وراؤها أي تنظيم أو جماعة، بل كان كسبها حلالاً بعرق جبينها وضرب يمينها حتى أصبح يُشار إليها بالبنان: من مثل سهير يا تنظيمات السياسة؟ وحتى الفكر والأدب. لقد كانت أعجوبة اجتماعية فذة وفريدة، متفوقة أكاديمياً، كانت وظلت مثيرة للجدل، ورغم أنها هي وليس غيرها، من طرح معظم القضايا لكنها لم تقل كلمة واحدة، إنما كانت تتيح منبرها للحوار مع وجهات الأخرى بصدر يتسع لكل (بلاهات) العالم وذكائه.
وكالة أنباء
 كانت “سهير” تتحرك مثل نقابة منتخبة، وكانت تمارس ذات دور الإذاعات والصحف حتى غدت مصدراً مهماً  لصدقية وموثوقية الأحاديث والأخبار (قالت سهير، فعلت سهير، على قول سهير)، وبالفعل كانت (موضة) في التفكير وكأنها تطرح وتدعو لانفتاح فكري خلاق، لكنها كانت في ذات الوقت محتشمة دون أن تقول كلمة واحدة بهذا الخصوص، وكنا دوماً نجدها بسهولة في المكان المناسب، تقول كلمة (معلم) وتختفي وما في شك.. النقاش العميق سيد الموقف.
كل شيء يتبدد
كانت “سهير” الطالبة، مسكونة بالأفكار العظيمة، تتكلم مثل مجنونة، وتصدر أحكاماً قوية عن علاقات البنات مع الأولاد  ومن الذي يصير معلم صف، أو أباً مثالياً أو معتوهاً أو فيلسوفاً، ومن التي ستتزوج سريعاً ومن ستظل عانساً إلى الأبد. ومع الأيام والسنين ظهرت “سهير” موظفة في إحدى شركات الاتصالات، وكنت أضحك: (عليها خلاص الكلام انتهى عند ناس الشركة ديل)، وكانت تضحك على الزمان وتقول لي: (أجيال وأجيال يا “صدِّيق”)، وأتساءل: هل انتهت الدنيا؟
استمر أنا في الهجوم عليها، لكونها لم تستمر “سهير” التي نعرف، و”سهير” التي نحلم أن تكون واحدة من قادتنا في المستقبل، وهي تضحك في حزن وصمت. وأسأل نفسي ماذا تبقى من تلك الفراشة وهي تكتب تحت هديتها (سوسو العسل) وتقول للسلفي (في عيونك كلام كتير لفلانة أمشي واتعافى يا رجل يا نبيل)، وتقول للصوفي (أي حب تقصدون)، وبطريقتها تلك كانت تسوق الهامش للمركز والعكس، وخيل إلينا أنها حجزت مقعدها، تقول للناس، والناس يستمعون لها متحدثة كما كانت.
خيوط ألم على (خرم) الأفق
لكنها انتهت موظفة في شركة اتصالات، فلماذا يا أنت تعيشين معذبة؟ وكعادتي معها حدثتني عن كل شيء، وأكدت لي أن الشركة لا تقتل المواهب، لكنني كنت أشعر وكأن خيوط الألم تمر فوق أفقها البعيد، فأردت أن أقول لها بل إنها كذلك، لكنني شعرت أن (الأوان قد فات).. فأمسكت عن أقوالي، وغادرتها.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية