سراي الزبير باشا.. صرحٌ من طين يقاوم قسوة السنوات ويطاول عنان السماوات
بين تمسك أحفاده بها وإهمال الحكومة لها
الجيلي – عقيل أحمد ناعم
تقف شامخة كالطود العظيم، شموخ الفارس الذي كان يسكنها وشموخ أهله الفوارس الغر الميامين ـ رغم اختلاف الناس حوله وحول تاريخه الذي يؤكد كثيرون أنه قد طاله التشويه ـ، منظر مهيب وأنت تراها منتصبة عند خاصرة (جروف النيل) في بره الشرقي تحتضنها مدينة “الجيلي” ـ 45 كلم شمال الخرطوم بحري ـ بين أرضها وسمائها، وتستلقي كالشامة على خد المدينة.. تسري في جسدك وأنت تنظر إليها قشعريرة مشحونة بعبق التاريخ، فتكاد ترى أمامك جيش (البازنقر) بقاماتهم الفارعة وسيوفهم المشرعة يصولون ويجولون بين أرض (النيام نيام) جنوباً ودارفور غرباً وصولاً حتى بحيرة تشاد.. مملؤين بروح العزيمة والإصرار التي يبثها فيهم قائدهم (الزبير باشا) ودر رحمة ود منصور.. كيف لا تكون (سراي الزبير) بهذه المهابة وبانيها ومانحها روح الشموخ هو هذا الرجل الباذخ، فحتى المباني والبيوت أحياناً كثيرة تشبه أصحابها.
صرح يطاول السماء
قصر الزبير باشا ـ المعروف بسرايا الباشا ـ أحد معالم الجيلي التاريخية البارزة، بدأ بناؤه بداية القرن العشرين تحديداً في العام 1900م تمهيداً لاستقبال الزبير العائد من مصر آنذاك، والذي أرسل مهندسين أتراك ومصريين خصيصاً لرسم خارطة (السراي) والإشراف على البناء الذي عملت فيه عدد من الأيدي العاملة المحلية ليكتمل في العام 1902م مع وصول الزبير إلى “الجيلي”، ليسكن فيه رفقة زوجته (الست) زينب بت منصور.
وتأسس البناء وانتصب من (الطوب اللبن) ـ الطين ـ بطراز يشبه القلاع القديمة، وبسمك (ثلاث طوبات)، بارتفاع يفوق الستة أمتار وصولاً إلى السقف الذي يتكون من (عروق) من المهوقني موضوعة على (مروق) من خشب الدوم، مفروشة بجريد النخيل. المبنى الذي ما يزال يحتفظ بشكله القديم، وبذات التماسك والمتانة له مدخلان أحدهما الرئيسي من جهة الشرق في شكل قوس (آرش) تحيط به عدد من النوافذ بإطار مقوس، ومدخلاً من جهة الجنوب.
عند الولوج للسراي ـ المكونة من اثنتي عشرة غرفة ـ من جهة الشرق تمر عبر ممرٍ ليس واسعاً تجد عن شمالك تصطف على الأرض عدد من (النحاسات) بأحجام مختلفة ـ آلات من النحاس مغطاة بجلد البقر ـ كان يتم الضرب عليها في المناسبات المختلفة خاصة لتجميع الجنود للحروب، أو في المناسبات السعيدة، ولا زال (نحاس الباشا) يحتفظ بدوره في استنهاض همم أهل الجيلي في المناسبات القومية. بعد تجاوز الممر تنفذ مباشرة إلى الصالة الرئيسية للقصر التي تطل عليها أغلب غرف القصر، وهي الصالة التي يتم فيها استقبال الزوار والضيوف ـ الآن بها أثاث حديث وضعه أحفاد الزبير الذين يقطنون السراي ـ تتزين جدران الصالة بصور الزبير باشا وهو يرتدي زي (البشوات)، بعضها في منفاه التاريخي بجبل طارق، وأخرى تضمه إلى عدد من قادة جيشه وحاشيته المقربة . تتكئ على جدران الصالة عدد من (الصواني) النحاسية الكبيرة التي كان يوضع عليها الطعام. وعلى منضدة في طرف الصالة تجد صينيتين صغيرتين وبعض الأباريق كلها من الفضة.
في أقصى جنوب المبنى توجد غرفة خاصة بها بعض مقتنيات الباشا الخاصة، منها (سريره) النحاسي المزين بستائر من جميع جوانبه، ومنضدة من الخشب القديم منحوت عليها أشكال من الزخارف، بجانبها (كرسي هزاز) خشبي.
في غرفة أخرى يحتفظ أحفاد الباشا من حفيده العمدة عبد المطلب ابن العمدة حارث بسيف جدهم الموشى عند مقبضه بالفضة الخالصة، بينما نصله المصقول منقوش عليه نقش خاص بجيش الزبير.
المبنى له باحة أمامية تطل على الشارع الرئيسي شرقاً، وأخرى خلفية تمتد حتى شاطئ النيل غرباً بها عدد من المغروسات والزروع.
إهمال رسمي
مائة وثلاثة عشر عاماً، عمر سراي الزبير باشا، تجعلها على قائمة المباني والصروح الأثرية وفق تصنيف (اليونسكو)، ولكن رغم هذه القيمة التاريخية والتراثية العالية، إلا أن الدولة لا تقدم شيئاً للحفاظ على هذا التاريخ، ورغم إقرار حفيد الزبير ـ ميسرة عبد المطالب الحارث الزبير ـ بأنهم رفضوا عرضاً من هيئة الآثار بمغادرتهم السراي وإلحاقها بالهيئة كمتحف، خوفاً من ضياع إرث جدهم ـ الذي حافظوا عليه طيلة هذه السنوات ـ نتيجة الإهمال الحكومي، إلا أنه أشار إلى أن الهيئة التزمت بعد ذلك بتخصيص ميزانية ثابتة للصيانة ولم تف بالتزامها إلا مرةً واحدة قبل ثمان سنوات، وأكد أنه وأسرته يقومون بالصيانة الدورية للسراي دون أي دعم حكومي.
ويبقى الأمر في النهاية لا يحتمل هذا التجاذب بين الأسرة وهيئة الآثار في ما يتعلق بأحد أبرز المعالم التاريخية في البلاد، ويحتاج لوقفة من كل المهتمين بالتراث للالتفات لـ(سراي الزبير باشا) ووضعها في المقام الذي تستحقه بين الصروح التاريخية العالمية وليست المحلية فقط.