أكتوبر .. تنازع الجميع ثوبها فمزقوا مكاسب الثورة!!
ما بين اتكاء الإسلاميين على نجومية “الترابي” وتخفي اليسار خلف النقابات
الخرطوم – عقيل أحمد ناعم – فاطمة مبارك
أكتوبر .. حتى دون أن نقرنه بكلمة (ثورة) .. أصبح محمّلاً بمعانٍ وقيمة أسطورية – تهفو إليها النفوس وتتطلع نحوها الهمم الساعية للتغيير.. لكن هذه القيمة الأقرب للظاهرة الخارقة لطبيعة الأشياء حينها شكلت عاملاً سالباً أثر في ما بعد على مكتسبات الثورة التي انطلقت شرارتها الأولى في 21 أكتوبر 1964م، إذ أن كل طرف سياسي اجتهد لمحاولة نسبة الثورة إليه وتقليل دور الآخر فيها، واضعين وراء ظهورهم أن أهم عامل لنجاح أكتوبر هو الإجماع الواسع الذي توفر لها، وهو ما خلق حالة من التنافس المحموم أفضى في النهاية وبعد أقل من خمس سنوات لإعادة دورة الانقلابات العسكرية في 1969م .. ولعل أبرز مظاهر التنافس انحصرت بين الإسلاميين واليساريين، دون أن تغيب عنها القوى الطائفية.
من كان يتوقع الثورة؟
الإجابة قد تكون غير صعبة وفي متناول اليد، إذ أن كثيراً من الروايات التاريخية تؤكد أنه رغم سرعة إنجاز الثورة منذ لحظة شرارتها الأولى حتى تخلي حكومة “عبود” عن السلطة، لم يكن أحدٌ يتوقع أنها ثورة مكتملة الأركان، إذ بدأت بندوة في جامعة الخرطوم عن جنوب السودان نظمها اتحاد طلاب الجامعة، تلاها تحرك الطلاب الذي سقط خلاله الطالب بالجامعة “أحمد القرشي طه” برصاص الشرطة التي كانت تطلق الرصاص في الهواء لتصيب إحداها “القرشي” داخل داخلية البركس، وكل هذا دون ترتيب مسبق من أي حزب سياسي.
عفوية الثورة
كل ثورة لابد أن تكتمل أركانها قبل أن تتخلق واقعاً في الطرقات والشوارع، لكن القيادي الشيوعي السابق والذي تخلى لاحقاً عن الشيوعية “عثمان الكودة” ـ وهو من تولى مهمة تهريب زعيم الحزب الشيوعي الراحل “عبد الخالق محجوب” من محبسه في مصنع الذخيرة الذي وضعه فيه “نميري” ـ أكد أن ثورة أكتوبر لم تخطط لها أي جهة بعينها. وقال لـ(المجهر) (الثورة جاءت عفوية ومضى أمرها بسرعة شديدة جداً لم يكن يتوقعها أحد). وأضاف (كاذب من يقول إنه من صنع الثورة)، مؤكداً أن الثورة اندلعت بالصدفة بعد محاضرة جامعة الخرطوم وحراك الطلاب المصحوب بمقتل الطالب اليساري “القرشي” بطلق ناري أطلقته الشرطة دون أن تكون تستهدف قتله، إذ أنه كان بالطابق الثالث حينها بداخلية (البركس)، لافتاً إلى أن الشارع حينها لم يشهد خروج غالب الشعب للشارع. وبرر “الكودة” لذلك بأن عوامل خروج المواطن للشارع لم تكن متوفرة، مشيراً إلى أن الشعب لم يكن يعاني إطلاقاً من ضيق في العيش أو أيٍ من مناحي الحياة. وقال (صحيح كانت هناك دكتاتورية وبعض التصرفات من قادة الحكومة حينها لكنها لم تكن كافية لتهيئة الشعب للخروج).
الأحزاب .. دخول متأخر لمشهد الثورة
وفقاً لاعتقاد “ربيع حسن أحمد” رئيس اتحاد جامعة الخرطوم إبان ثورة أكتوبر أن الأحزاب لا دخل لها بثورة أكتوبر، فالرجل يؤكد أنها لحقت بالأحداث بعد بيان الرئيس “عبود” بحل الحكومة. وقال(أكتوبر بدأت في جامعة الخرطوم وكل الأحداث الرئيسية كانت بقيادة الاتحاد من قيام الثورة وإلى تشييع القرشي). وأوضح “ربيع” أنه بعد أحداث الجامعة تكونت (جبهة الهيئات) التي لم تكن مشكلة من الأحزاب، مشيراً إلى أنها دعت الأحزاب وتكون ما يسمى بالجبهة القومية التي مثلت فيها الأحزاب وشاركت في المفاوضات، لتكوين الحكومة بعد أن تم إعلان حل الحكومة. وقال (وهذا كان أول عمل بالنسبة للأحزاب)، وأشار إلى أن أول اجتماع حزبي تم في القبة بأم درمان في ذات الليلة التي أعلن فيها “عبود” حل الحكومة.
بين نجومية “الترابي” و(جبهة) اليسار
التنافس على الوصل بـ(ليلى) الأكتوبرية كان أشده بين اليساريين ممثلين في الحزب الشيوعي، والإسلاميين (الإخوان المسلمين)، وكل منهما يتكئ على واقعة أو حالة تسند إدعاءه بنسبة الثورة إليه. وإن كان الجدل والخلاف لازال يدور منذ 1964 وحتى الآن حول من صنع الثورة، لكن قد لا يكون هناك مساحة واسعة للجدل و(المغالطة) حول أنه إن كان هناك من نال نجومية ثورة أكتوبر وما تلاها، فهو بلا كثر اختلاف هو الشاب وأستاذ جامعة الخرطوم حينها القادم لتوه من دراساته العليا بأوربا د.”حسن الترابي”، فالرجل كان متحدثاً رئيسياً في ندوة الجامعة الشهيرة يوم 21 أكتوبر ملهباً حماس الحضور ليحاولوا بعدها الخروج للشارع ويسقط “القرشي”، ليبرز دورٌ جديد للترابي حيث كان قائداً للموكب الذي حمل جثمان “القرشي” وطاف به قلب الخرطوم وحتى لحظة تشييعه في قريته (القراصة) بالجزيرة، ليتحول إلى ما يشبه أيقونة الثورة وقائدها. ومن هنا اعتمد الإسلاميون في ادعائهم على النجومية الطاغية للترابي الذي كان أحد القيادات الشابة للإخوان المسلمين، قبل أن يتبوأ منصب قيادة التنظيم بقوة دفع نجومية أكتوبر. ولكن بالمقابل فالترابي نفسه ينفي أن تكون مشاركته في أكتوبر باعتباره ممثلاً لتنظيمه (الإخوان المسلمين) أو بتوجيه منه، فقد قال في مقابلة صحفية قديمة رداً على سؤال حول وقوف جهة محددة خلف حراكه خلال الثورة (في الحقيقة لا، كنت أستاذ الجامعة الذي يرتدي البدلة وملتحياً ولا أعرف نفسي سني أو شيعي أو وجودي، مجرد أستاذ جامعة وليس لي صفة سياسية). ويواصل في سرد التفاصيل التي أفضت لاشتعال الثورة (بدأ الشباب في الهيجان، وعندما رأيت النار في عدد من السيارات عرفت أنها الثورة! لم أخطط لهذا ولم أتدبر لذلك ولم أنسق مع آخرين، ولم أتآمر، ومباشرة بعد ذلك بدأنا العمل). والنجومية لاحقت “الترابي” لحظة إعلان “عبود” حل حكومته وهو قادم من أم درمان، حيث كان يسكن مع أصهاره فالتقته جموع الثائرين عند حي (المقرن) وحملته على الأعناق.
لكن رئيس اتحاد طلاب الجامعة حينها “ربيع حسن أحمد” ـ وهو منتمٍ للإخوان المسلمين ـ يضيف لدعاوى الإسلاميين سبباً آخر بقوله إن الإسلاميين كانوا محركين للأحداث من الجامعة بحكم وجودهم في اتحاد الطلاب الذي أتى عبر التمثيل النسبي، وأنهم هم الذين سعوا لتوسيع جبهة الهيئات وتكوين جبهة قومية تشمل الأحزاب والنقابات.
بالمقابل فالحزب الشيوعي لم يكن مجرداً من مبررات ادعاء شهادة ملكية الثورة، فالشيوعي كان مسيطراً حينها على كافة نقابات العمال والزراع والمهنيين، والتي بدونها لا يمكن تنفيذ الإضراب السياسي المدني الذي يكمل أشراط قيام الثورة، وهذه السيطرة اليسارية على النقابات التي كونت ما عُرف بـ(جبهة الهيئات)، أعطت أكتوبر صبغة يسارية لا يمكن إغفالها.
“ربيع حسن أحمد” لم يستنكف أن يحتفظ لليساريين والإسلاميين بدورهما في الثورة بقوله (الإسلاميون والشيوعيون لعبوا دوراً من خلال اتحاد طلاب جامعة الخرطوم والذي تكون بالتمثيل النسبي، والشيوعيون تحركوا وعملوا اجتماعاً لجبهة الهيئات وانتخبوا ممثلين لهم في هيئات العمل المختلفة).
الأب الشرعي لأكتوبر
(الهزيمة يتيمة والنصر آباؤه كثيرون)، هكذا عبر القيادي بحزب الأمة القومي والمهتم بالتاريخ “عبد الرسول النور” عن تنازع القوى السياسية حول ادعاء صناعتهم للثورة.
وأكد لـ(المجهر) أن ثورة أكتوبر انتفاضة شعبية مئة بالمئة قادها طلاب جامعة الخرطوم في ليلة الندوة الشهيرة 21/كتوبر1964م. وقال (إذا أخذنا مكان انطلاق الثورة فهو اتحاد جامعة الخرطوم والحضور كان من طلاب الجامعة، وأول شهيد سقط هو “أحمد القرشي طه” من جامعة الخرطوم، فهذا يعني أن رأس الرمح هم الطلاب سواء في جامعة الخرطوم أو جامعة الفرع أو طلاب أو المعاهد، بجانب طلاب الثانويات العريقة في ذلك الزمان). وأضاف (إذاً الأب الشرعي هم الطلاب ثم من بعد ذلك يأتي الآخرون).
وأوضح “النور” أسباب تبني كل فصيل سياسي للثورة بقوله (الإخوان المسلمون يتحدثون عن تبنيهم للثورة لأن دكتور “الترابي” كان من المتحدثين في ندوة (الأربعاء) الشهيرة، وحزب الأمة يتحدثون عن تبنيها لأن “الصادق المهدي” أم المصلين في جنازة الشهيد “القرشي”، والحزب الشيوعي كان حاضراً من خلال جبهة الهيئات وبالتالي الادعاءات من الأحزاب السياسية بأنها شاركت صحيح، ولكن هي ثورة الجميع)، مشيراً إلى أنها ثورة الطلاب الذين التحقوا بها وجماهير الأحزاب ممثلة في الأمة والاتحادي والإخوان المسلمين واليساريين.
هل خدع اليسار الجميع فضاعت الثورة؟
يؤكد كثير من المراقبين أن التنازع السياسي حول أحقية كل طرف بأكتوبر أدى إلى تقويض الثورة ونزع عنها أهم ميزاتها وهي الإجماع الواسع الذي حصلت عليه في بداياتها. المحلل السياسي والكاتب الصحفي الدكتور “عبد الوهاب الأفندي” يرى أن أوى بوادر النزاع السياسي حول أكتوبر وتقويض تجربتها ما سماه (الخدعة اليسارية)، مؤكداً أن بداية التنازع كانت (خدعة) يسارية شملت (تهريب) عناصر مسيسة إلى حكومة أكتوبر الأولى، تحت غطاء المؤسسات النقابية والمهنية والمدنية التي تم التوافق على تمثيلها تحديداً لحياديتها. ومعلوم أنه بعد حل حكومة “عبود” تم التوافق على تمثيل كل حزب بممثل واحد في الحكومة الجديدة، على أن يكون بقية الممثلين من النقابات والمستقلين، ولكن حسب “الأفندي” فإن الخدعة تمثلت في أن غالب أو جميع ممثلي الهيئات والنقابات كانوا من الكوادر الشيوعية، الأمر الذي جعل الشيوعيين مسيطرين على حكومة ما بعد الثورة. ولكن كان لابد أن يتواصل التنازع السياسي فالأحزاب الطائفية الكبيرة لم ترض بهذه القسمة وبهيمنة اليسار على الحكومة. وهنا يروي القيادي الشيوعي السابق المعاصر لتلك الأحداث “عثمان الكودة”، أن الأحزاب السياسية سيرت بعد ستة أشهر فقط من الثورة مظاهرات حاشدة رفضاً لسيطرة الشيوعيين وضغطوا عبر النزول للشارع على رئيس الوزراء حينها “سر الختم الخليفة”، وأجبروه على حل الحكومة وتشكيلها على أسس جديدة قوامها (ثلاثة وزراء لحزب الأمة، ومثلهم للوطني الاتحادي، والشعب الديمقراطي، وممثل واحد لكل من الإخوان المسلمين والحزب الشيوعي). وهنا حسب “الأفندي” اعتبر الشيوعي ما جرى خيانة لـ(الثورة التقدمية) ليعتبر انقلاب مايو من بعد بمثابة (الثورة التصحيحية) واستعادة مسار الثورة .
وفي المحصلة يمكن القول إن الثورة التي حظيت بأكبر قد من الإجماع الشعبي والحزبي لحظة قيامها والذي ضمن لها النجاح، في الإطاحة بحكم ديكتاتوري كأول ثورة شعبية من نوعها في المنطقة العربية وربما الأفريقية، بل ومن أوائل ثورات العالم على الديكتاتوريات، لم تلبث أن ارتدت ثوباً ضيقاً من خلال محاولة احتكار كل جهة ملكية الثورة ومحاولاتها الاستئثار بثمارها ونتائجها، لتضيع على البلاد أكبر فرصة ليتحد الجميع على الحد الأدنى من المشتركات في رفض الدكتاتورية والمطالبة بالديمقراطية. ولعل آثارها لا تزال تصبغ وجه الحياة السياسية السودانية حتى اللحظة الراهنة.