(الجندي).. هدية الرئيس "تيتو" للرئيس "عبود"
(ملك) و(البوردين) أشهر بواخر الحربية السودانية
الخرطوم ـــ أمل أبو القاسم
بعد مضي قرن وأكثر انتبهت بعض الجهات المعنية بالإرث التاريخي والحربي للسودان، وبدأت في نبش بعض الآثار لترميمها وأحياء ذكراها بتعريفها وإسهاماتها على مر التاريخ. كما نشط بعض الكُتّاب والباحثين في تقليب دولاب الزمن واستخراج مكنون بعض ما طمرته السنين مما يزخر به السودان، ومن أبرز المعالم السفن الحربية، ورغم أن عدداً مقدراً منها استخدم كأداة للنيل منه إلا أن بعضها كان له أثر إيجابي في إنشاء قواعد حربية تخص السودان.
والبواخر بمختلف أنواعها التي خاضت مياه النيل الإقليمية كثيرة غير أن أبرزها (ملك والبوردين) و(النوبة)، فيما ظلت هناك بواخر مجهولة تفتقد التعريف بها وهي الأجدر بذلك.. (المجهر) جلست إلى اللواء الدكتور “عمر النور” مدير المتحف الحربي، فضلاً عن استقاء بعض المعلومات من مصادر أخرى.. فمعاً إلى ما خلصت إليه..
{ الجندي المجهول
قبيل الخوض في سيرة البواخر نعرج قليلاً إلى هذه الخلفية نقلاً عن البروفسور “يوسف حسن فضل”، حيث كان أول إبحار للسفن البخارية على نهر النيل بين الإسكندرية والقاهرة في نحو العام 1828م، ولا يعرف تاريخ ظهور تلك البواخر في سودان وادي النيل بالتحديد، ولكن يروى أن الأمير “محمد عبد الحليم بن محمد علي باشا” استخدم باخرة ذات مجداف جانبي في رحلته على النيل الأزرق إلى ود مدني عام 1858م.
وقد كشف اللواء “عمر النور” عن جوانب أخرى معتمة من صفحات تاريخ البواخر في السودان التي ظلت كجندي مجهول وهي الباخرة (الجندي)، وطفق “النور” يقص علينا تاريخها منذ العام 1958م أي في عهد “عبود” عندما كان “تيتو” رئيس يوغسلافيا وقتها يقوم برحلة بحرية طاف خلالها عدداً من الدول العربية والأفريقية وعندما وصل المياه الإقليمية للسودان راقه الساحل الكبير الذي يتمتع به دون أن تكون هناك سفن حربية، وعند وصوله شواطئ مدينة بورسودان ذهب “عبود” لاستقباله، عندها اقترح عليه “تيتو” إنشاء قوات بحرية وطلب منه إرسال مجموعة عسكرية للتدريب بيوغسلافيا، فانتقى عدداً من الضباط المستنيرين الذين يجيدون الإنجليزية وبعض الجنود، وبعد انتهاء الدورة التدريبية سافر “عبود” بنفسه إليهم وعند عودته أهداه “تيتو” باخرة هي (الجندي)، بعدها تكونت أول قوات بحرية في تاريخ السودان.
وقال اللواء “عمر” إن الباخرة أصبحت بمثابة (يخت رئاسي) وهي مكونة من ثلاث غرف وصالون استخدم كمكتب للقائد العام وسلم خلفي يفضي إلى سطح به جلسة من الكراسي والترابيز، مضيفا إن الباخرة تعاقب عليها معظم القادة حتى العام 1988م ورست أمام القصر الجمهوري إبان تولي “الصادق المهدي” لوزارة الدفاع وقبعت هناك وعدّت جسماً من توابع القصر، إلى أن قام المتحف الحربي وتسلمها باعتبارها قطعة أثرية يشار إليها بالبنان.
وتكمن أهمية (الجندي) حسب “النور” إلى أنها جاءت مع إنشاء البحرية السودانية، فضلاً عن كونها أول قطعة أثرية رئاسية بمثابة يخت، وتعاقب عدد كبير من الرؤساء عليها، ومضى بقوله إلى أن المتحف الحربي الآن يسعى في ترميمها وإعادتها لهيئتها الأولى، ووضعت لها بعض الدراسات الفنية من قبل مختصين في مجال الهندسة البحرية الذي أثبت صلاحية ماكينتها وهي أصلية من بلد المنشأ، والخراب ينحصر في الجزء العلوي من هيكلها، وهي تقف في ساحة المتحف بعد إخراجها من النيل.
{ جدل ولغط حول (ملك)
الباخرة (ملك) واحدة من البواخر وقد دار حولها لغط كبير، وكانت تدعم حملة اللورد “كتشنر” ومقر قيادته، أسهمت في الحرب تساندها زوارق حربية وبوارج مقاتلة أخرى مثل الباخرة (بوردين). وقد استطاعت الباخرة (ملك) ورفيقاتها في معركة أم درمان أن تدمّر الطوابي التي صنعتها المهدية بفاعلية، وما قامت به هذه الباخرة شكل منعطفاً تاريخياً حقيقياً، وقد ساهمت في إخماد عدد من الثورات حتى فترة الحرب العالمية الثانية، إذ كانت تعمل كناقلة للوقود في مناطق جنوب السودان.. وشكلت مقراً لنادي الزوارق منذ فترة الاستقلال، واستخدمت غرفها كمكاتب إلى أن لفظها فيضان العام 1988م نحو الشط وإلى يومنا هذا، بيد أن مباحثات ومشاورات عدة جرت بشأنها طرفها حكومة السودان وملاك نادي الزوارق وجمعية (ملك) البريطانية.
وعنها قال اللواء “عمر”: (الباخرة “ملك” ومنذ القرن التاسع عشر أصبحت تابعة للنقل النهري، وفي سنة 1998م عندما كان “التيجاني آدم الطاهر” وزيراً للسياحة عقد عدد من الاجتماعات واللجان بشأنها، وكنت وقتها عضواً فيها برتبة مقدم، وكان ملاك نادي الزوارق قد ادعوا ملكيتها غير أن الحكومة انتزعتها وأصبحت تتبع للهيئة القومية للآثار والمتاحف)، وأضاف: (نشطت اللجان المتعاقبة للعمل على صيانتها، سيما بعد ظهور جمعية “ملك” البريطانية بقيادة ابن اللورد “كتشنر” وعدد من أبناء الضباط الذين أبدوا رغبة لصيانتها ومن ثم أخذها لبريطانيا وعرضها على نهر التايمز باعتبارها إرثاً لابد من تعريف الأجيال به، بيد أن الحكومة رفضت باعتبارها من الآثار السودانية).
وقال: (أصدرت الحكومة القرار الجمهوري رقم (5) بتشكيل لجنة صيانة الباخرة عبر وزارة البيئة والسياحة، ومن ثم كوّنت لجنة أخرى في العام 2004م، ولم تخلص إلى نتيجة وبعد فترة عاد هؤلاء وطلبوا أخذها وعرضها مدة سنة ومن ثم إعادتها وتم رفض طلبهم للمرة الثانية. وما زالت السفينة رأسية على النيل أمام نادي الزوارق بعد جرها من الوحل، عقب الاتفاق على أحد أمرين بعد صيانتها إما أن تصبح كازينو وقبلة للسياح، أو تصبح متحفاً عائماً يقوم بجولات على النيل وقد رجحت كفة الأخيرة).
{ تقطيع أوصال (البوردين)
وعن (البوردين) كتب البروفسور “يوسف حسن فضل” أنها واحدة من السفن التسع التي جلبت لتنفيذ سياسة ولاة مصر لنقل الإمدادات للخرطوم وجنوب السودان، وخلال أربعة عقود من العمل النشط ظلت (البوردين) تبحر على نهر النيل الرئيسي وفرعيه، خدمت خلالها بنشاط الإدارة التركية ودولة المهدية والحكم الثنائي الإنجليزي المصري، وفي مُستهل معركة “كرري” (2 سبتمبر 1898م) استولى عليها جيش “كتشنر” واستخدمها لوقت قصير في حمل قوات الجيش الغازي، ولاحقاً في حمل مواد البناء بين أم درمان والخرطوم، كما عملت ضمن السفن الأخرى في نقل حطب الوقود من محطات تجميعه على النيل الأبيض.
لكن وبتقادم السنوات فترت الباخرة ونخر الكبر في جسمها، وانتهي بها المطاف في البقعة بالقرب من طوابيها بعد تقطيع أوصالها إلى أربع قطع.