خربشات (الجمعة)
{ (القلاجي) هو ذلك الشخص الذي يمارس تجارة الغنم والماعز في الأسواق التي تعرف بـ(أم دوَرْوَرْ) .. يبيع ويشتري في صغار الماعز والضأن ، وأحياناً يلعب دور الوسيط بين الراعي والتاجر، و(القَلَّاجِي) شخصية محبوبة باسم الوجه طلق المحيا.. إذا باع سمحاً وإذا اشترى سمحاً ..أول من يأتي إلى السوق في الصباح الباكر وآخر من يغادره.. يحمل عصاه يهش بها الغنم ،وله مقدرة فائقة في معرفة القيمة السوقية للمعروضات.. وعن طريق (القلاجي) تحدد سقوفات الأسعار.. في مثل هذه الأيام والقادمات ترتفع قيمة (القلاجي) ،وأهميته نظراً لحاجة الناس لشراء خراف الأضحية.. ويقابل (القلاجي) (السمساري)، في قطاع الأراضي.. أما في قطاع المحاصيل يطلق عليه اسم (جَلَّاطِي) .. وفي قطاع المواصلات يسمى (رِكِّيب).. وللقلاجة تقاليد خاصة وأخلاق وقيم متعارف عليها ومن شروط القلاجي حسن السيرة وطول البال والسماحة.
(2)
{ في كتابه الجيش والسياسة كتب العميد “عبد الرحمن خوجلي” عن ذكريات في جنوب السودان ،وجاء في صفحة (159) عن حفل ساهر أقامه دينكا أويل، في مدينة “واو” ، في الثامن عشر من يناير 1986م حفل ساهر لدينكا أويل، كنت أتوقع أن تكون أمسية لطيفة رائعة وتضفي على المكان شيئاً من روح الفرح، الذي يحتاجه المحارب في أوقات الراحة. وبالفعل كان رائعاً ذلك الحفل وكان الحضور حشداً من البشر ضاق بهم نادي البوليس ،على سعته، خاصة، ودينكا ملوال هم الأكثر عدداً بجنوب السودان، وكانت ليلة للطرب بحق وحقيقة ، وجدنا أنفسنا في حفاوة دينكا أويل وكلما تقدم الزمن كلما ازداد الحفل جمالاً وإشراقاً، فكانت الرقصات الشعبية من شرق بحر الغزال للدينكا، تحت إيقاع الطبول .وهكذا سهرنا في ليل طويل وجميل وقضينا وقتاً ممتعاً بحق، وكانت الليلة استراحة للذهن من ضغوط الشد العصبي في شعبة العمليات ، والتحركات العسكرية بالمنطقة، لاحتواء الموقف وتأمينه.. من يقرأ للعميد “عبد الرحمن خوجلي” يشعر بعظم الجنوب، ومذاق أهله الذين ذهبوا بعيداً عنا .. “خوجلي” لا يكتب فقط ذكريات محارب، وضابط يقود جنوده، ولكنه يكتب عن حياة الإنسان الجنوبي بعمق معرفي، وسرد قصصي أكثر تشويقاً من مذكرات اللواء البنا.
(3)
{ من في كردفان الجنوبية لا يعرف الباشتمرجي “علي نوجة”!! ولم يسمع بمفتش التعليم “جرهام عمر”.. وحينما كان الأطباء الاختصاصيون على أصابع اليد الواحدة ،كان بريق الممرضين والمساعدين الطبيين طاغياً. ومن أشهر المساعدين الطبيين “عبد الله بدر” ، ذلك الرجل وسيم الطلعة ،صارم القسمات يأخذ المريض برأفة.. ويجعل من بيته (عنبراً) للمرضى، ينفق من ماله الخاص لعلاج المحتاج.. ولا يغضن جبينه في وجه زائر.. “عبد الله بدر” من أعلام كردفان الجنوبية رحل قبل سنوات قليلة ، ووري جثمانه بقريته السنجكاية، ولكن “عبد الله بدر” لا يزال مقيماً فينا، حيث قدم للدنيا والناس والمجتمع خيرة الأبناء.. الذين ارتقى بهم في مدارج العلم فأصبحوا منارات سامقة وأعلاماً تضئ ظلام الجهل. الدكتور “إسماعيل عبد الله بدر” ، الذي كان من طلائع خريجي جامعة الخرطوم ، الذين احتضنتهم منظمة الدعوة الإسلامية ، قريباً من د. “الأمين محمد عثمان”.. وحينما تفرق شمل المنظمة، أسس مع قيادات إسلامية في بريطانيا منظمة أيادي المسلمين، ومن صلب “عبد الله بدر” خرج “إسلام” ، الذي ينشط الآن في أعمال الخير والدعوة وتربية الأيتام .. وبالجامعات يدرس الدكتور “إبراهيم عبد الله بدر”.. وفي سد مروي المهندس “بدر الدين” .. وفي دنيا الاغتراب يمثل “حسن عبد الله بدر” وجهاً يشرف السودان بدولة الكويت.. ومن أبناء “عبد الله بدر” ،الذين يمسكون (العُقب) كما يقولون، “بدر الإله” .. و”العبيد وبدر” هؤلاء يمثلون أوتاد الدبيبات، المدينة والمجتمع .. اللهم أرحم “عبد الله بدر” في قبره .. وانفع بأبنائه البررة المجتمع، واحمهم من شر حاسد إذا حسد، وبلغهم ببركة يوم (الجمعة) مراقي السؤدد واجعلهم دخراً لهذا الوطن.
(4)
قيل إن شيخ العرب “ود أبو سن” ، كان يطوف على سوق القضارف ومن حوله حاشيته من الحراس ، بهيبته ووقاره.. واحترام الناس له وخوفهم منه، ويقينهم بعدله.. شاهد شيخ العرب حبشياً يعرض شبلاً صغيراً لأسد ، وبسعر زهيد جداً . ساء شيخ العرب منظر الشبل الصغير في قبضة الحبشي ،وفي الحال أنشد قائلاً ،وهو يخاطب الأسد:
جابوك سوق القضارف
ساكت درادر وضيعة
وأمك في الحريم
ما ها المرة السميعة
نهرة ناس أبوك
للقلوب لويعة
وإن كان كبرت
جنياً تقلب البيعة.
(5)
في هذه الأيام تقاتل قواتنا الباسلة من الفرقة التاسعة المحمولة جواً، “سلاح المظلات” في الأراضي اليمنية ،ضمن قوات التحالف العربية الداعمة للشرعية في تلك الدولة العربية، التي لم تتذوق طعم الاستقرار منذ زمان بعيد، فاليمن الجنوبي تتالت عليها انقلابات الماركسيين والاشتراكيين العرب ، حتى عادت لأحضان اليمن الكبير.. والذي بعد سقوط “علي عبد الله صالح” بات في اضطراب، استغله الشيعة من الحوثيين لفرض نفوذهم على أغلبية الشعب السني.. كان باليمن الشاعر الراحل “سيد أحمد الحردلو” السفير الذي كتب عن اليمن ما لم يكتب عن بلدان العرب مجتمعة. وفي كتابه “أنتم الناس أيها اليمانيون” ، ينثر “الحاردلو” أبياتاً بحق هذا البلد المسكون بالجمال والشجاعة والفراسة والأصالة ، ويقول:
ماذا تبقى من الشكر حتى تبلغه اليمن
وماذا يفيد الكلام وقد أكملته اليمن
وأنت الذي بذل الحب للناس والأرض
خمسين عاماً ..
بدون ضجيج وبدون ثمن.
وقد هام “الحاردلو” عشقاً بالعاصمة اليمنية “صنعاء” وتغزل في وجهها الصبوح وعطرها النفاذ.. وقلبها المترع بالأحزان . وفي قصيدة بعنوان طفلة المدائن “صنعاء” ،كتب يقول:
إني أجئ وفي الأحداق أنواء
والشوق برحني ولدي أبناء
وفي الفؤاد ترانيم توشوشني
إن الهوى يمن والحسن صنعاء
فضمدي وجعي يا حلوتي فأنا
إليك أشكو وفيك البرء والداء
وليس لي غاية إلاك أنشدها
مادمت شاعرة فالكون أصداء.
رحم الله “الحاردلو”.. وأسكنه فسيح الجنات، وكتب الله نصراً لقواتنا الباسلة في معارك اليمن السعيد .. وهو وطن نحب ،وليس لنا به سكن.
وكل (جمعة) والجميع بخير