أقول لصديقي د. عمر محمود خالد: "قول للزمان أرجع يا زمان"
تجاني حاج موسى
صديقي، بل شقيقي د. عمر محمود خالد رفيق الصبا والشيخوخة بإذن الله، صاحب برنامج “صحة وعافية”، لي معه ذكريات حبيبة للنفس، جمعنا الشعر حينما كان القلب أخضر أيام لم نعرف من الدنيا سوى مرح السرور. كان في سبعينيات القرن الماضي طالباً بكلية الطب جامعة الخرطوم، وكنت أدرس القانون بجامعة القاهرة فرع الخرطوم المسائية.. عمر كان مولعاً بالشعر للدرجة التي جعلته مؤسساً لمنتدى الكلية الثقافي. وقتها كانت جامعة الخرطوم تعحج بالمنتديات وصحف الحائط، بعضها يتبع لتيارات سياسية والبعض مستقل يعبر عن رأي أصحاب الصحيفة، غير أن “شلة” شعراء القاهرة الفرع وكلية الطب جامعة الخرطوم كانت ذات صبغة ثقافية صرفة برغم أن بعضنا معروف انتماءه السياسي.. وقصيدة “ياسيّدة لا.. فايتانا وين مستعجلة” كانت هي القصيدة التي قدمت د. عمر محمود، فأصبحت أشهر قصيدة في ذلك الزمن الجميل، بل صارت “سيَّدة” أشهر بنات جيلها بسبب تلك القصيدة، الشيء الذي دفع صديقي إلى نشرها في أول ديوان صدر له ووجد رواجاً شديداً حتى أن اقتناء نسخة من الديوان كان حدثاً حد ذاته، وبالمقابل كانت “حان الزفاف وأنا حالي كيفن أوصفو” التي غناها الفنان المرحوم هاشم ميرغني، وأغنيته الأخرى “وتزف لينا خبر زفاف قايلنا نقدر نحملو” والتي غناها الفنان عثمان مصطفى، سبباً في شهرة زميل الدراسة الصديق الشاعر عزمي أحمد خليل..
أما زميلنا أستاذ الفلسفة المفكر التجاني سعيد، فقد كان مفتاح شهرته “من غير ميعاد واللقيا أجمل في الحقيقة بلا انتظار”، وهذه من نظمه المبكر حينما كان تلميذاً بالمرحلة الثانوية لحنها وأداها المرحوم الفنان العبقري محمد وردي، وأخرى لحنها وأداها الفنان الكبير الطيب عبد الله “زمان لو قالوا عن تاجوج روائع خلدها الدوبيت”، ورائعة التجاني سعيد “وقلت ارحل.. أسوق خطواتي من زولاً نسى الإلفة” والتي صنع لها الراحل وردي لحناً رائعاً.. كان التنافس محتدماً بيننا، نتبارى في نظم الأغنيات الجميلة، وكل أغنية تحمل في طياتها قصصاً رومانسية، بطلاتها صرن جدات يجتررن حلو الذكريات.. وبرغم أن أغنيات د. عمر محمود تأخرت نسبياً عن أغنياتنا، إلا أن قصيدة “يا سيّدة لا” أخذت حقها من الشهرة حتى الآن، وكانت “لما شفتك.. شفت فيك كل العجبني” رائعة د. عمر التي لحنها الموسيقار محمد آدم المنصوري وأداها الفنان الصديق محمود تاور واشترك بها في مهرجان من مهرجانات الثقافة وأحرزت المركز الثاني، بعدها كانت ثنائية د. عمر محمود والموسيقار الكبير محمد الأمين في أكثر من أغنية.. وتتداعى الذكريات، فأذكر أخي الحبيب الشاعر الصحفي المهاجر عبد العال السيد الذي قدم للمرحوم الفنان عبد الله الحاج رائعته “زهرة السوسن عطرك الفواح للقلوب مسكن”، والصديق الزميل القاص والصحفي سعد الدين إبراهيم الذي قدم للفنانة الراحلة “منى الخير” أغنية “أبوي” التي صاغها حينما كان تلميذاً بالمرحلة الثانوية، ثم كان لقاؤه بالفنان أبو عركي وقصيدته “عن حبيبتي أنا بحكي ليكم وضل ضفايرها ملتقانا”، وصديقي زميل الدراسة الشاعر محمد نجيب محمد علي ورائعته والفنان الجيلاني الواثق “مع السلامة وأبقي زي ما قلت ليكي”.. عشرات الأغنيات الجميلة الرائعة ميلادها كان في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، خرجت معافاة لأنها توفر لها مناخ تلك الفترة، كلنا أبناء جيل واحد وزمن ازدهر فيه الاقتصاد السوداني حتى أن الجنيه السوداني كان يساوي ثلاثة دولارات وبضعة سنتات. ترى هل لازدهار الاقتصاد وقتها دخل في ميلاد تلك الأغنيات الجميلة؟ أم الصداقة والمحبة والزمالة؟
شريط من الذكريات يترى بتفاصيله عن السبعينيات الجميلة، ود. عمر قاسم مشترك في العديد من الأحداث، منها صالونه الثقافي في ميز الأطباء بمستشفى أم درمان التعليمي والذي كان عبارة عن غرفته الملحق بها حمام فاخر.. كنا نهرع إلى تلك الغرفة التي كانت تضيق بروادها، وأشهد الله أن ساكنها لم يتبرم ولم يبد ضيقاً طوال أعوام استضافة المنتدى.. بالمناسبة ذلك الميز الخاص بالأطباء كان يقع مباشرة شرق المستشفى لا يفصله إلا شارع الأسفلت، الآن تحول الميز إلى مستشفى تعليمي خاص بالأطفال، وهذا أمر جميل جداً، لكن أن يختفي هذا الميز أمر محزن لأننا استغللناه منتدى ثقافياً، بل لأنه تراجع في امتياز كان يتمتع به أطباء ذلك الزمان إذ كانوا في متناول أي مريض في أية ساعة من ساعات اليوم، ومن ناحية أخرى يجعل الطبيب في وضع مريح يمكنه من الإبداع في عمله.. ومن رواد الصالون الأستاذ الفنان محمد ميرغني، والمرحوم الفنان إبراهيم أبو دية، والفنان الملحن السني الضوي، والمرحوم الشاعر أبو آمنة حامد، والشعراء عزمي أحمد خليل وبشرى سليمان وأبو عمار، وأعداد مقدرة من أهل الثقافة والفن والإعلام، والصالون كان متاحاً لتقديم الجديد من الأعمال الشعرية والغنائية، أيضاً كان مكاناً لتجمعنا ننطلق منه لمشاهدة عروض السينما الدور الثاني.. بالمناسبة أين دور السينما في وطننا الحبيب ولماذا اختفت تماماً؟ علماً بأن فن السينما يشكل أداة طيبة للترفيه البريء والثقافة الجماهيرية، وفي ذلك الزمان كانت هناك مؤسسة حكومية للسينما ترأسها عدد من رموز الثقافة وقتها، من بينهم كان بروفيسور على المك يرحمه الله، واللواء الصديق الشاعر أبو قرون عبد الله أبو قرون آخر مديريها في أوائل تسعينيات القرن الماضي.. والغريب أن تلك المؤسسة تمت خصخصتها برغم أنها كانت من المؤسسات الرابحة، وأن خبراء صناعة السينما في العالم أكدوا أن كل مدخلات السينما الجيدة متاحة بالسودان أكثر من هوليوود أمريكا، وأن أفلام “الأوسكار” كانت متاحة للجمهور السوداني بعد أسابيع قليلة من إنتاجها!! وأننا شاهدنا واستمعنا إلى أغنيات كبار نجوم الطرب العربي من على خشبة مسرحنا القومي العتيق الذي أصبحت مساحته صغيرة جداً بسبب الانفجار السكاني وهجرة أهل الريف إلى العاصمة!! وأن عبد الحليم حافظ كان يشتري قماش بدلتة الأنيقة من السوق الأفرنجي بالخرطوم– يرحمه الله– وأن حديقة الحيوان التي كانت تضم كل حيوانات الأرض كانت من أميز حدائق الحيوان في العالم، وكانت مكاناً ترتاده كل الأسر بالعاصمة المثلثة وسكانها وضيوفها!! بالمناسبة مقر تلك الحديقة المدهشة هو فندق برج الفاتح من سبتمبر الآن!! والذي لا يرتاده إلا علية القدم!! وأن الخرطوم– فعلاً– كما تغنى بها الفنان الراحل سيد خليفة كانت جنة رضوان.. وطول عمرنا ما شفنا مثل جمالها في أي مكان!! وأن رائد فن موسيقى الجاز “جيمي كليف” حلَّ ضيفاً علينا بعد أن سمع الخرطوم من أجمل عواصم الدنيا!! وأن العديد منا قد ذهب للترحيب به لأننا كنا نستمتع بأغنياته وموسيقاه!! وأننا ذهبنا في معيته لنسمعه إيقاعات الذكر والنوبة ليسجلها ثم يعيدها إلينا عبر ما يعرف بموسيقى “الريقي” التي اشتهر بها الفنان الجامايكي العالمي “بوب مارلي” تلميذ الفنان الزنجي الأمريكي “جيمي كليف”!! وأننا شاهدنا واستمعنا لأشهر عازف بوق “ترامبيت” “لويس آرمسترونغ” أيضاً من المسرح القومي!! وأن الفندق الكبير الذي بناه المستعمر وورثناه كأجمل فندق في العالم، قد استضاف جمال عبد الناصر وأم كلثوم ونيكروما، وكل رؤساء دول عدم الانحياز، وكل مشاهير نجوم الفنون وأنه الآن آل إلى شركة أجنبية!!
واجتر الذكريات الجميلة.. وأخي د. عمر محمود خالد شاهد عصر معي “أيام لم نعرف من الدنيا سوى مرح السرور.. وتسلق النخل الأنيق وقطف تيجان الزهور”.. كما قال الشاعر التونسي الشقيق أبو القاسم الشابي.. أو كما قالت سيدة الغناء أم كلثوم: “وعايزنا نرجع زي زمان؟! قول للزمان أرجع يا زمان”!!