الديوان

معابر التواصل الاجتماعي بين (حيشان) الزمن الجميل

(الطاقة والنفاج) للساكنين أفواج
تقرير ـ نهلة مجذوب
“ود باب السنط والدكة والنفاج والحوش الوسيع للساكنين أفواج واللمة التي ربت جنى المحتاج والنار الدغش والريكة جنب الصاج”.. المتأمل لأغنية (باب السنط) الشهيرة لشاعر الشعب “محجوب شريف” والتي تغنت بها فرقة (عقد الجلاد) يحس بعمق الأبيات، كما يتحسر البعض على ما آل إليه الناس من نعمة القرب والعشرة بعدما بات يتضح جلياً كل يوم الجفاء ويتمدد في حياتنا بصورة كبيرة.
 الشعب السوداني ليس كسائر الشعوب، معروف عنه أنه يتسم بجمال وعمق العلاقات الإنسانية في الأفراح والأتراح ومع الأهل والجيران والأصدقاء والزملاء، تنشأ العلاقات الحميمة، أيام وليالٍ يقضوها في بيوت الأعراس والبكاء والولادة ومع كل الطقوس الاجتماعية يتجمعون، ولكن الكثير من أشيائنا الجميلة والفريدة باتت مفقودة في مجتمعنا السوداني، وربما عوامل عديدة أثرت على ذلك كما يقول المراقبون لهذا الوضع أبرزها التكنولوجيا ووسائلها ووسائطها التي عزلت الأسرة عن بعضها داخل البيت الواحد، ناهيك عن الجيران والأهل والمعارف، وهنا فقدت لذة التعارف والسمر و(اللمة) وكل ما يقرب الناس لقضاء أوقات سعيدة يسودها الحب والإلفة.
فتحة باب تربط بين البيوت
وللرجوع للوراء وعلى محطات عهد ولى ومضى دون رجعة، زمن فريد كان فيه المجتمع السوداني في أوج تمسكه ببعض سواء في الأرياف أو المدن وحتى العاصمة “الخرطوم” وأحيائها يتعايش الناس بكافة السحنات والثقافات، ولشدة ارتباطهم ببعض كل يفتح بيته نحو الآخر، يرحبون ببعضهم دونما استئذان ورنة جرس باب البيت واتصال كما اليوم، وكان (النفاج) وهو عبارة عن فتحة باب تربط بين بيوت الجيران وتمتد ربما لآخر بيت في الحي، عبرها يتزاورون ويتآنسون دون تكلف وتذمر للمجيء عبر الباب الرئيسي، وأحياناً يكون باباً من الخشب صغير يسمح بمرور شخص واحد فقط.
كيف أصبحتو وكيف أمسيتو
وفي سياق ذلك تلفت الحبوبة “الزينة النور” إلى أنها ولأكثر من عشرة سنوات لم تر نفاجاً بين بيتين حتى ناهيك عن القديم الذي يكاد يربط بين جميع بيوت الحي،  وزادت أن بيتها بمدينة أم درمان العريقة كان النفاج يوصلها لجميع جيرانها وأقربائها، موضحة أن الأهل الذين يسكنون في حوش واحد كان النفاج مدخلاً حميماً لهم، كذلك الحال في قريتها ومسقط رأسها، ولكنها تحسرت عن سنوات مرت حقاً ولم تر فيها نفاجاً قط، وعزت ذلك لانشغال الناس بالحياة الدنيا أكثر من علاقاتها الاجتماعية والأسرية، وأبانت أن شغف التملك لازم الجميع كل يريد ورثته ولو كانت أمتاراً ليغلقها عليه، ولا مساحة لنفاج أو حتى (طاقة)، وقفنا مع حبوبة الزمن الجميل عند (طاقة) والتي أوضحت أن (الطاقة) هي مثل الشباك الصغير الذي يكون بين بيوت الجيران، عبره كانوا أيضاً يتفقدون بعضهم بحنو واهتمام كل يوم، وكانت عبارة (كيف أصبحتو وكيف قيلتو وكيف أمسيتو)، مشيرة إلى أن أحوال الجيران كلها تكون معلومة للبعض عبر (الطاقة) وفيها أيضاً تحلو (الونسة) بين النسوة، وعبرها يختلس العشاق نظرة خاطفة لمحبوبته من بنات الأهل والجيران دون أن يشعر به أحد أو يراه، وذكرت لنا أغنية التراث (العجب حبيبي) والتي فيها (يمة زازة يمة زازة أخدت نظرة أنا من قصاد الطاقة)، وبعبارة أكثر تحسراً أكدت أن (برندات الزينكي) الحديثة التي أضحت الآن في بيت كل سوداني زادت (الطين بلة)، وشددت من انحصار كل جار في بيته، مما قلل أيضاً من التواصل والكرم حيث أصبحت كل البيوت حالياً مغلقة ومكيفة ولا تسمح بنافذة للتواصل مع الجار.
الحوش الكبير شايلنا
أما “ستنا فضل” امرأة (خمسينية) تحسرت على عمق العلاقات والتعامل الراقي بين الجيران والأهل، وقالت إنه كان من المعتاد أن تنده لكي جارتك عبر (الطاقة والنفاج) من حوش بيتها لتدعوك لـ(عواسة الكسرة) الوجبة الأولى والمحببة لمعظم السودانيين، وتردف قائلة إن (النار الدغش) أي التي توقد مبكراً لإعداد الشاي فيها (تعاس الكسرة) بوجود زمرة من النسوة يجتمعن كل يوم عند واحدة.
ويضيف “الحاج الطيب أحمد” أن غياب العديد من القيم السمحة في المجتمع واندثارها أثر في حياة هذا الجيل، مشيراً إلى أنه ولوقت ليس ببعيد (أقل من عقدين من الزمان)، كان الجار مثل رب البيت يقدر ويحترم ويربي أبناء جيرانه وأهله كما أبنائه تماماً ولا غضاضة في الإنفاق عليهم ودعوتهم لتناول وجبات الطعام دون محاذير وعقد كما هو سائد اليوم، وذكر “الحاج” أنه ولعظمة التواصل من الأقرباء الذين يقطنون مع بعضهم البعض كانت تقام المناسبات وتفتح كل البيوت صوالينها ودواوينها ولا تحس أن المناسبة عند من تحديداً، مبيناً أنه جاء في أغاني البنات (الحوش الكبير شايلنا نقيل نمسي قبلنا)، لافتاً إلى روح الأسرة الواحدة التي أصبحت مفقودة الآن، فأصبح من الإمكان أن يقيم جار مناسبة ولا يدعو جاره أو يتفقده، كما يمكن أن يحدث مكروه لآخر ولا تجد من يتبعه وهو يعلم، وكل ذلك بسبب هشاشة العلاقات الاجتماعية بين الجيران.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية