ومرت الأيام
عندما ضرب الجفاف والقحط أطراف السودان في النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي، وجاعت الحرائر في كردفان ودارفور بسبب نقص وشح الأمطار لعامين على التوالي، وجدت حكومة الرئيس الأسبق “جعفر نميري” نفسها أمام واقع مر، إما الاعتراف بالمجاعة ودعوة المجتمع الدولي للتدخل أو انتظار غضبة شعبية مضرية. وقد أطاحت المجاعة برأس “جعفر نميري” ولكن في ذات الوقت قدمت أمريكا نفسها للسودانيين في ثوب الرءوف الرحيم، وكان الرئيس الأمريكي “بوش” ومن بعده “ريجان” قد تغلغل في مخيلة أهل السودان وخلود اسمه في أشعارهم وأغانيهم التراثية، وضارب آلة أم كيكي ذات الموسيقى الطروبة عند قبائل البقارة التي تأثرت بالمجاعة تغنى يمجد الرئيس الأمريكي “ريجان” ويندب حظه، وهو يجزم بالرحيل من وطنه الذي يصفه بوطن أم كيكي. ويقول وهو يترنم ليلاً تحت ضوء القمر:
بلد أم كيكي تاني ماجايكي
أنا راحل لريجان الأمريكي،
التصحر جانا والجفاف عمنا
رئيسنا نميري فزا ماجانا.
والفزيز هو الهروب من أرض المعركة، وقد اعتبر المغني خروج “النميري” حينذاك بمثابة هروب من وطنه الذي ضربه الجوع والإملاق.
ولكن الشيخ “عبد الرحيم محمد وقيع الله البرعي” بشاعريته التي وظفها في الدعوة للتسامح، كان قد ناجى ربه أن يغنه عن السؤال وقلة المال:
أغنينا بفضلك عن عويش ريجان
واسترنا بسترك من سؤال غيرك
وأحفظ وطنا يا كريم،
ولكن الجوع في تلك الحقبة السوداء قد نخر في عظم المجتمع. واستلهم الفنان الراحل “عبد العزيز العميري” من معاناة الناس في الحصول على كسرة الذرة ومن معسكر المويلح غرب أم درمان مسلسل وادي أم سدر، ورغم قلة الإمكانيات وضعف ميزانية التلفزيون كان ينتج المسلسلات ويقدم خدمة إعلامية متطورة، لأن المبدعين والشعراء والأدباء كانوا يطوفون حول الحيشان الثلاثة وينثرون إبداعاتهم في الفضاء قبل أن يأتي زمان يمنع فيه البوليس الشعراء من التغريد في غصون لبخ الحيشان، ويضيق صدر نقابة الصحافيين بنقد سلوك بعض الصحافيين وتصدر الفرمانات بوقف مسلسل بيت الجالوص
في سنوات القحط والجفاف تلك. كان المجتمع والسلطة والإعلام في خندق مواجهة الجوع
وتسكن في مسام الشوق آهاتنا
ونبحث للصغار عن جرعة ماء في قريتنا
وتموت بالحسرة أمتنا.
الهجرة والنزوح الداخلي أحدثا شروخاً عميقة في المجتمع، هاجرت الفئات العمرية دون سن الأربعين
إلى المدن بحثاً عن الرزق وأصبحت منطقة المويلح غرب سوق ليبيا قرية كبيرة للنازحين من إقليم كردفان، مثلما أصبحت منطقة شمال جبل أولياء معسكراً للنازحين من جنوب السودان. والنزوح الداخلي أدى لاندثار عادات وتقاليد وثقافات، والشباب ركبوا الصعاب وهم يشقون الصحاري إلى ليبيا بحثاً عن فرص العمل. وتحرض أغنيات الحسيس الشباب على الهجرة الخارجية بدلاً من الهجرة لمناطق الإنتاج الزراعي. وتقول إحدى أغنيات فتيات دار حامد:
يا القاعدين في هبيلا شغلكم قله حيلة
حليل الناس السارو وجابو الشيك بجمالو.
وفي ذلك تحريض على الهجرة الخارجية وتقليل من شأن الزراعة والمزارعين وهزيمة للإنتاج، ولا يعرف حتى اليوم عدد ضحايا الصحراء من الشباب الذي كان يهاجر على ظهور اللواري عبر الصحراء القاحلة، وهم يتوقعون تبدل حالهم وأن تتغير أوضاعهم المادية بعد أن أصبح أغلبهم عاطلين بسبب الجفاف وأصبحت النساء يحترفن صناعة الشاي وصنع الطعام، وقد نشأ سوق قندهار الحالي كثمرة النزوح الذي ضرب كردفان في تلك السنوات، وأدى النزوح لاندثار قرى بأجمعها وثقافات وتقاليد، وحدث تسلخ للمجتمع الريفي واندثار لبعض القيم والأخلاق.