(المجهر) في زيارة خاصة للشيخ "عبد الجليل النذير الكاروري" حول الخاص والعام
الدين والفن جيران.. والذين يحرمون الغناء يخالفون الطبيعة البشرية
جيل الإخوان غير متعصب وأنصح من يقومون بذلك أن يشددوا على أنفسهم
لهذه الأسباب حملتني مايو للسجن سنتين وبداخله تعرفت على الله حقاً
التعدد في الزواج ليس فرضاً وزواجي الثاني كان خياري
زوجتي تعجبت من شرائي (طبلة) لابنتي.. لكن المفاجأة جانا عريس
جلست إليه – هبة محمود
بين كتبه ومؤلفاته جلس يقتفي أثر العلوم، وعلى مقعده الوثير بمكتبه بمسجد الشهيد كان في انتظارنا، يمنحه جلبابه الأبيض حضوراً طاغياً يحسد عليه رغم علامات الزمن التي بدت واضحة على محياه.
لم يكن الشيخ “عبد الجليل النذير الكاروري” حين يعتلي منبره خطيباً للناس وإماماً، يرتدي عباءة التشدد كبعض الأئمة والدعاة، كان مرناً يجد للناس الرخص ويهون عليهم تعاليم دينهم، تماهياً مع قوله تعالى (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)، وفي إجاباته معنا كان أكثر يسراً فبعينيه الوقادتين اللتين تعجان بآلاف الحكايا جلسنا معه نرتشف عبق ذكرياته، حاولنا أن نقلب في أوراقه وتفاصيل حياته الخاصة ففاجأنا بفيض من تفاصيلها.
{ دعنا نعود بك إلى الوراء كثيراً حيث مدينة “نوري” الطفولة والنشأة والصبابة؟
– “نوري” في الولاية الشمالية كانت جنة من جنائن السماء، كنا نصحو على أصوات عصافيرها ونحن صغاراً، وأنا أعتقد أن هذا الصوت كان له أثر كبير في المزاج نفسه وفي الوجدان كذلك، حيث إنك تشعر بلطف، يداعب مشاعرك ومن أجل ذلك نجد أن هذه المنطقة “نوري” و”القرير” تعجان بالأدباء والشعراء والفنانين.
{ ولأجل ذلك نجدك تجمع بين الأدب والشعر.. وتعاليم الدين؟
– الدين والفن جيران كلهم متعلقون بالجمال، عشان كدا ما بنقدر نفرق بينهم، يعني لما تسمع القرآن بصوت جميل، وكذلك صوت العصافير وحفيف الرياح، تنفعل إيجاباً، لأن النفس واحدة (مش كدا)، بس نحن كنا ممنوعين من الحفلات الغنائية مثل “الدليب” و”النقارة”، لأن عائلتنا ما كان عندها علاقة بالغناء حتى لما يكون في عرس عندنا ما بيعملوا حفلة، ولكننا كنا نستمع من بعيد فقط.
{ وأنت تستمع للغناء من بعيد.. هل كان يجذبك بإيقاعاته؟
– طبعاً، نحن كنا نسمع (ربوع السودان) ونجتهد يوم الربوع ما يكون عندنا (حش قش) عشان نستمع إليه، كنا نستمع كذلك لـ”النعام آدم” ونردد (لا شوفة تبل الشوق ولا رداً يطمن أريتك تبقى طيب أنا البي كلو هين)، ودا كلام حد الكلام ذاته.
{ تردد الغناء وأنت ممنوع من الحفلات الغنائية؟
– أيوة.. لما تستمع لـ”الكابلي” وهو يغني (يا بت ملوك النيل يا بت عز الرجال)، مين ما ينفعل مع كلام زي دا.
{ رغم أن هناك من يحرم الغناء؟
– الذي يحرم الغناء على الإطلاق هذا يخالف الطبيعة البشرية، يعني ما معقول الإنسان يكون نشأ في الجنة وفي داخله إنكار للنغم، لأن الجنة ليست منظراً فقط، فهي ما دام جنة نشأنا فيها أولاً، نجد أن بها حفيف الرياح والمولى حدثنا عنها قائلاً: (تجري من تحتها الأنهار)، والناس قد يعتقدون أن كلام الله قُصد منه مشاهدة العين فقط، دون أن يدرون أنه أريد بذلك السمع أيضاً، لأن لجري المياه صوتاً جميلاً، ولكننا هنا نجد أن الفضائيات بالغت في (أغاني وأغاني)، الغناء في الحياة مثل الشحم في الماكينة يمنع الاحتكاك، أما وقود الحياة فهو الذكر والعمل ونحن أمة متخلفة، عاوزين مزيد من العمل، ولما كل المبدعين يكون إبداعهم فقط الغناء فهذه تصبح مشكلة.
{ أنت الآن في رمضان لا تستمع لبرنامج (أغاني وأغاني)؟
– أنا ما بجلس خصيصاً عشان استمع، إلا عفواً عندما تلاقيني وأنا أقلب بين القنوات، وتقليب القنوات مهم جداً بالنسبة لي ليمكنني من معرفة ما يدور حولي لأنني خطيب ولابد لي من معرفة الأحداث كما أنني جزء من الواقع.
{ بخلاف “النعام آدم” تستمع لمن؟
– ضاحكاً.. الفنان “صديق أحمد” وهو أيضاً من عندنا.
{ دا تعنصر لفناني الشمال؟
– ليس تعنصراً فقد كان يعجبني الفنان الراحل “الأمين عبد الغفار” رحمه الله، فهذا فنان ينافس فناني الشمال، زول حنين جداً زارني في مكتبي وأخذ مني أبياتاً لكي يقوم بتلحينها، ولكنه سافر إلى “الأردن” وتوفي هناك.
{ “نوري” أثرت في شخصية “الكاروري”؟
– بالتأكيد أثرت في شخصيتي إلى مدى بعيد، نحن عشنا طفولتنا بين النيل والجنائن، وجدنا حريتنا من اللعب، أنا الآن لما يجوني الأولاد الساكنين في شقة أقول ليهم انتو جايين من السجن. فكنا (نطفش) لنتعلم العوم ونصعد إلى النخيل وإذا طعنتنا شوكة نخرجها لوحدنا، وعندما تنجرح يدنا من حش القش، نداويها بأنفسنا، ولو قلت ليك بماذا نداويها، قد يضحك القراء علينا، عشان كدا خليها.
{ ليه أخليها مهم نعرف.. لتعم الفائدة؟
– مبتسماً.. الدواء كان بواسطة (البول)، لأنه يتعذر وجود صيدلية بالقرب منك تأخذ منها ما يشفي جرحك، عشان كدا نتبول على الجرح وخلاص، ورغم أنه كانت لدينا شفخانة، إلا أنه يوجد بها مس للعيون ومحلول اسمه بوريك وسلفا، يعني ما فيها أجهزة متطورة وخلافه، وبالتالي الأمراض نفسها تكاد تكون معدودة بحمد الله، فنحن نشأنا في براءة وفي حرية وفي براح.
{ في ظل هذا البراح واستماعك للغناء رغم منعك عنه.. كيف كنت تتلقى علومك الدينية؟
– أول ما بدأنا منذ الصغر بدأنا طبعاً بالمدارس الدينية أو الخلاوى، فقد كان لدينا مسيد، كتبنا باللوح، وأنا أذكر أن لوحي كان اسمه الفجر وليالي العشر، وكان شيخنا الذي يعلمنا هو شيخ “عثمان” رحمه الله (عام 1952) وبعد وفاته أُغلق المسيد، والتحقت بالمدرسة، ولأجل ذلك وعندما وفقني ربي، وأنشأت مدرسة قرآنية، أنشأتها كفارة لخطيئة أسرة هجرت القرآن منذ عام 1952م ونحن مسيدنا أغلق في وقت مبكر جداً، أيضاً بجانب الخلوة كان لدينا معهد، ومعهدنا هذا كان أول معهد أزهري فرعي، بعد أم درمان في السودان كله، أنشأه شيخنا وعمنا وصهري أنا، فلما أكملت الابتدائية دخلت المعهد وأصبحت أزهرياً، يمكن بعض الناس عندما يرون اشتغالي بالشؤون العلمية الهندسية يفتكرون أن مساقي كان علمياً بينما أنا أزهرياً، وهذا المعهد هو الذي مدحه “التني” قائلاً: (ما بخش مدرسة المبشر عندي معهد وطني العزيز)، وعندما احتجنا للثانوي لم أذهب بعيداً عدينا البحر، ودرست بالمعهد الثانوي بـ”كريمة”، ثم بعد ذلك التحقت بجامعة (أم درمان الإسلامية).
{ هل ما نشأت عليه في بيئة امتزج فيها الفن والجمال بالدين جعلك أكثر مرونة مع الناس تعطي الرخص وتعمل بمبدأ خير الأمور الوسط؟
– كنت صائماً وفي الإجازة ومع شيخي فجاء أحد أقاربه من الحلة الأخرى، وقال لي إنني شربت في نهار رمضان، فقلت له: إذا دخلت البيت تقضي يومك، وهذا طبعاً على المذهب المالكي، وإذا عدت إلى الحلة، فقد أسقاك الله. فقال لي: أنا راجع.. فأنا إذا وجدت رخصة للناس لا التزم بالمذهب المالكي لأنه في المالكية إذا شربت عفواً لا بد أنك تقضي اليوم، بينما الحديث أطعمه الله وسقاه… فجيل الإخوان غير متعصب، فـ(حسن البنا) الذي عاتبه أبوه لأنه اشتغل بتأليف الناس، ولم يؤلف الكتب، قال له يا أبتي: إنما أؤلف رجالاً، والرجال الذين ألفهم “حسن البنا” هم الذين ألفوا الكتب مثل “سيد سابغ” الذي كتب عن فقه السنة وقارن فيه بين المذاهب، و”ابن رشد” و”محمد الغزالي” و”القرضاوي” الذين سخروا السلفيين من كتابه (الحلال والحرام) وأسموه (الحلال والحلال) وذلك لإباحته الغناء والرسم، نحن وجدنا شيوخاً لم يكونوا فقط إخوانيين، أنا التقيت بـ”محمد أبو زهرة”، “محمد أبو شوكة”، “عبد الحليم محمود”، “سليمان دنيا” و”علي عبد الواحد وافي”، يعني التقينا بمختلف العلوم التي صنعت شخصيتنا، بجانب التحديات التي وجدناها في الحياة نفسها، فأنت الآن عندما تصعد المنبر، وأنا الآن أخطب احتساباً بحمد الله قرابة الأربعين عاماً، تواجهك أسئلة كثيرة جداً، فإن لم تكن مرناً، فهذا يعني أن تنصرف عن الناس، فمن الممكن أن تشدد على نفسك ولكن لا تستطيع أن تمنع الناس الرخص، وأنا أنصح الذين يشددون أن يشددوا على أنفسهم، وهذا لهم، أما الرخص فلن تستطيع أن تمنعها من الناس.
{ رغم أنك لم تكن متشدداً إلا أن ذلك لم يمنعك من دخول السجن مناهضاً لثورة مايو؟
– قصة السجن دي قصة طويلة طبعاً (نميري) عندما أتى كان (أحمرا)، وفي يوم خمسة وعشرين مايو سنة 1969 كنت في “القاهرة” بوفد من قيادات الطلبة، وأظن أن الاستخبارات كان ليها دور في أن تغيب ثلاثين من قيادات الطلبة بأن ابتعثتهم للقاهرة، كما غيبوا قيادة الجيش بأكملها في “موسكو” أيضاً في ذاك الوقت، وأنا عندما عدت من “القاهرة” هاجمت في الجرائد الحائطية الرئيس (نميري) وكتبت (زول من الدب الروسي وجدناه مغشياً عليه لأن الحرارة شديدة وفي اليوم الثاني تم عرضه في الأخبار المصرية مغشياً عليه رغم أنه خفضت له درجة الحرارة أربع درجات بخراطيم المياه، لكنه لم يستطيع أن يتحمل حر “القاهرة”، وقلت: إذا الشيوعية لن تتحمل حر المنطقة) وفي اليوم الثاني أخذت إلى السجن وقضيت به سنتين.
{ ماذا شكلت لك هذه التجربة؟
– لما صالحنا “نميري” في بيت “الكاروري” عمي، وكان أي ـ عمي ـ هو مشهور في الجزيرة أبا بمقاومة “نميري”، أنا صليت بهم بسورة (البينة)، فقال “نميري” إن القراءة لامست قلبه، فقلت له: الفضل يرجع ليك يا ريس قريتنا قرآن في كوبر عامين، ففترة السجن شكلت في داخلي الكثير يكفي أنني وجدت الله لأني وجدت خلوة كنت لوحدي ليس معي سوي الله فكنت أصلي وأبكي وأترنم، كنت لا أحب حديث الناس لأنني اقرأ قرآن 14 ساعة حتى ولو كان المتحدث “حسن الترابي”، لا أحب حديث أي بشر وكنت أشعر أن حديثهم ناقص ولما يكون علياً (الميز) تجديني أهرول من مكان الطبخ إلى مكان القراءة لشوقي لها، الآن أنا لا أجد مثل هذا في الحياة اليومية.
{ بالحديث عن حياتك الخاصة.. كيف التقيت بالسيدة فاطمة (أم أحمد) زوجتك الأولى؟
– (أم أحمد) كانت ابنة عمي.
{ يعني غطيت قدحك؟
– أنا قلت لي أبوي عاوز أتزوج، فقال لي من المشايخ، فقلت له من فيهم، قال لي الكبير، و”فاطمة” كانت بنت الكبير، عقدنا في الديوان وانتهى الأمر على ذلك.
{ كان زواجاً بسيطاً؟
– كلما أسرفنا في التجهيز قلت البركة، يعني في زيجات يحدث فيها الطلاق بعد 3 شهور ويكونوا صرفوا عليها ثلاثة مليارات، فهذا الأمر غير أنه يصيب بالعين، يقلل البركة، ونبينا نصح إذا أردنا البركة يجب أن نقلل المال (أيسرهن مؤونة أكثرهن بركة).
{ بذات الفهم زوجت أبناءك أم إن تطلعاتهم ومعتقداتهم جعلتك تقدم تنازلات؟
– أيوة طبعاً الأفكار والمعتقدات تختلف، نتنازل بنسبة معينة، لكن حتى الآن لم يحدث لدي أي ما يتجاوز المعروف.
{ تزوجت بأخرى على (أم أحمد) من باب التعددية أم إعجاب بالأخرى؟
– التعددية هي طبعاً ليست فرضاَ من الخالق، و(أم عمر) لا تربطني بها صلة قرابة وإخوانها أصدقائي.
{ وجدت معارضة؟
– الشايقية طبعاً (مرتهم) واحدة، عشان كدا أنت لما تتزوج بأخرى بتكون خالفت نمط الأسرة، لكن كان عندي جدي أنصاري وفارس وأنا سميت تيمناً به، كان متزوج ثلاثة وثلاثين مرة، فبعض أهلنا قالوا (الزول) وهم يقصدونني، سميتوهو على “عبد الجليل” الأنصاري عشان كدا تزوج بأخرى.
{ (أم أحمد) ماذا فعلت؟
– (أم أحمد) كانت معارضة جداً، ولكن ما شاء الله، كان.
{ رضيتها كيف؟
– ضاحكاً.. رضيتها بالصبر فقط.
{ المناكفات بين (أم أحمد) وضرتها كيف تتعامل معها؟
– لا المناكفات دائماً بتكون معاي أنا، فأنا لم أمكنهم من ممارسة ما يسمى بـ(الضر) لأنني ما سكنتهم مع بعض وإذا تلاقوا في المناسبات يتلاقون بأدب.
{ الزواج باثنتين كان صعباً بالنسبة لك؟
– كان صعباً ولكنه خياري أنا.
{ كم لديك من الأبناء؟
– من (أم أحمد)، عندي “أحمد” و”أسامة” و”عبد الله” و”محمد” و”صفاء” و”سارة” و”أيمن” وهذا احتسبته وهو أكبر الأبناء، ومن (أم عمر) عندي (عمر وعاصم وهبة) وأيضاً احتسبتها عند الله.
{ تتعامل معهم كأصدقاء؟
– والله هم أن رضوا أن يصادقوني أنا راضٍ مصادقتهم، لكن ممكن القول إنهم مصادقين بعضي وليس كلي، فكثير من أسرارهم عند أصدقائهم الآخرين، لكن بالنسبة لـ”أحمد” أصبح شيخ وبالتالي بقينا متفقين في أشياء كثيرة ،أما بالنسبة لـ”محمد” فهو مشروع مهندس وعندنا تداخلات مع بعض، أما البنات فهناك مسافة لأن البنات أسرارهن مع والدتهن، وفي إحدى المرات لما أتيت من “الصومال”، جبت لـ”سارة” بنتي طبلة فالأم قالت لي شيخ ويجيب طبلة قلت لها “سارة” دي منغلقة على (اللاب توب) و(الموبايل) وأنا عايزها تدق عشان أسمع صوتها والآخرون يسمعون صوتها والله أول ما دقت الطبلة تقدم عريس لخطبتها.
{ دي طبلة خير؟
– ضاحكا.. أيوة ولذلك أنا أقول لهم السعادة هي أن تخرج إلى الآخرين ولو بي صوت طبلة والشقاوة هي أن تسجن في دواخلك، يعني أكثر الناس سعادة هو ذاك الذي يمارس الرياضة، ويخرج للآخرين، أما الذي ينكفئ على ذاته يصاب بالوسواس.