حوارات

د. حسن الترابى يتحدث إلى موقع (أخبار تركيا)

علي جان جليك

أجرى موقع (أخبار تركيا) حواراً صحفياً مع المفكر الإسلامي السوداني الدكتور “حسن الترابي”، في الوقت الذي يتصاعد فيه الجدل حول نجاح الأحزاب السياسية ذات التوجه الإسلامي، في قيادة الدول التي تولت إدارتها عقب ثورات الربيع العربي، ومدى انسجام هذه الأحزاب مع القيم والمعايير الديمقراطية. وفيما يلي نص الحوار:

{ ظهرت الحركات الإسلامية بعد النصف الأول من القرن العشرين.. ما هي الأفكار التي تميّز هذه الحركات عن غيرها؟
_ بسم الله الرحمن الرحيم.. أولاً- رسالة الإسلام رسالة خالدة وجاءت للناس كافة، لأن الله لن يبعث أنبياء من بعد النبي محمد “صلى الله عليه وسلم”. الدين يتجدد بتجدد الظروف والإمكانات. لكن المسلين جمدوا أفكارهم بعد النهضة الأولى التي انطلق فيها الإسلام إلى أصقاع الأرض، تخلى المسلمون عن الاجتهاد رغم أن الله يدعونا في القرآن أن نجتهد ونتدبر آياته.
ثانياً- المسلمون لا ينظرون إلى أصل المعاني وجوهرها وإنما ينظرون إلى ظاهر الكلمات، لذلك ضعف الإيمان في قلوب الناس، وإذا ضعف الإيمان يتجمد العقل. تجمد الفكر في طبائع الأشياء، لأن أولياء أمور المسلمين متخلفون، يورثون الجهل لأبنائهم ويمنعون الفقه من أن يدخل مناطقهم حتى يستبدوا بأهوائهم السياسية كما يشاءون. انعزلت الصوفية عن هؤلاء الحكام تماماً، لأنهم يرون هذه الأرض (أرض الشيطان)، ولابد من الابتعاد عن هذه الأرض والانسحاب إلى الخلوة. وبدأ المسلمون بفصل الدين عن الدولة وإبعاده عن الطبيعة وعن العلوم، وقصره على الشعائر الشكلية.
إذا سألت أحدهم ماذا تقصد برفع يديك في الصلاة، لا يعرف، أو ماذا تعني كلمة الله أكبر أو سبحان الله؟ حتى العرب لا يعرفون. وإذا سألتهم في الحج ما معنى (لبيك اللهم لبيك) لا يعرفون.
يجب أن ندفع الشر بالخير، لأن الله أمرنا بذلك بعد أن خلقنا أحراراً في الأرض. إن الله أمرنا بدفع الشر ونقد الخطأ، وإذا لم نفعل ذلك فإن الشر سيأتي ليستفزنا حتى نتحرك. يقول الله (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ).. والآن نحن تحت هذا الاستفزاز.. درست في مدارس بريطانية، رأيت التقليد الأعمى للغرب في كل شيء.. لقد استفزني تخلف المسلمين وجمودهم الفكري.. أنا لست إلا واحداً من الناس قدّر له أن يحمل الثقافة التقليدية التي يقرأها كل العلماء التقليديين من لغة عربية وفقه وعقيدة وغيرها. ولكن في النهاية كنت أقرأ الجديد فلست تقليدياً بحتاً ولست من الذين أخذهم الغرب ومسحهم تماماً وأضلهم عن الدين.

إن أصول الفكر الإسلامي تجمدت منذ الفترة التي تلت الإمام الشافعي رحمه الله، وتأثر الفكر من بعده بالمنطق الإغريقي الصوري الذي نقله كثير من الناس.. في الحقيقة لابد أن نستفيد من كل الثقافات، لكن لا يجوز أن تكون هي الأساس الذي نبني عليه أفكارنا.. وجدت الفرق بيننا وبين النموذج الإسلامي في المدينة.. عدنا إلى أيام الجاهلية وبدأنا نتعبد شيوخنا كما كانوا يتعبدون الأصنام في الجاهلية.. قادتنا السياسيون والوطنيون أخرجوا الدين من السياسة والفنون والرياضة وأبعدوه عن العلوم والاقتصاد، وحصروه في المساجد كما يحدث هناك في الكنيسة.. زرت تركيا مراراً ورأيت كيف أبعدت عن تاريخها وهويتها.. كما أني زرت آسيا وأعرف تاريخ المسلمين هناك والظروف التي مروا بها.
جاء الاستعمار إلى هنا، وقامت ثورة ضد المحتل البريطاني.. محمد علي باشا هو من جاء بهم إلى هنا.. هو ألباني وينسب إلى الترك، وهو ليس من الترك وليس من العثمانيين، وجاء ليحكم السودان ويستعمره كما تستعمر الدول الأوروبية. هو قاتل حتى العثمانيين، وهو لم يأت من أجل الدين، بل كان يريد ذهباً وجنوداً، وليؤمن المال من أجل مصر، وجاءنا بخبراء استعمار من بريطانيا والنمسا وإيطاليا. وهذا ما أثار حفيظة الناس فقاموا بثورة ضده.. كان يظن أن الناس لن تخرج عن أمره، لأنه منسوب إلى الخلافة والخلافة لا يجوز الخروج عليها، هذه هي الأوهام القديمة عندهم، ولما خابت ظنونهم اخترعوا لهم نظرية اسمها “المهدي”. وقامت الثورة المهدية وبدأوا بالجهاد، ولكن عندما وصلوا إلى الحكم لم يستطيعوا إدارة البلاد، لأن كتبهم لا توجد فيها أحكام إدارة البلاد.. لا توجد في كتب الصوفية كلمة واحدة عن الاقتصاد أو معاش الناس أو عن التعاون مع الآخر.. ولما جاءوا إلى الحكم كانوا من أفشل الحكومات، وكرههم الناس بسبب طغيانهم وتجبرهم.. ولما جاء البريطانيون لم يقاتلهم الناس، لأنه لا يوجد دافع.. الهجوم على الدين كان غزواً ليبرالياً غربياً واشتراكياً شرقياً، وهذا ما أثار غضبنا. قرأت تفاسير القرآن في السجن ووجدت أغلب التفاسير تفاسير سطحية، وقلة قليلة من التفاسير تهتم بالمعاني العميقة. القرآن نزل ليتماشى مع الواقع والحياة، ولابد أن يتناسب مع الواقع ومع الظروف ومع الابتلاءات.. فقلت لابد أن أفسر القرآن.
مررت على الحركات الإسلامية كلها، فوجدتها لا تهتم بالاقتصاد، ذكروا أشياء عن الحكم (الإسلام دين ودولة).. كنا نردد هذا الشعارات، لكن لا ندري كيف نكتب ميثاقاً لحكم البلاد، لأنه لا يوجد في الفقه ولا في الصوفية (السودان بلد صوفي) ما يدعم ذلك.. قبل الصوفية كان العرب المسلمون يعيشون كما في الجاهلية، إذا أقسم أحدهم بالله وقلت له لا أصدقك فيقول لك واللات والعزة. لكن رغم وجودهم (الصوفية) لا يزال كثير من الناس في الجاهلية. وهذا ما سهل للغرب تقسيم العالم الإسلامي إلى دويلات متناحرة.
كتبت في الاقتصاد، بعد أن قرأت كتباً كثيرة عن الاقتصاد وأنا في السجن. وبدأت بتفسير القرآن بشكل يتناسب مع الواقع الحديث، حتى يستطيع فهمه الياباني والفنلندي بعد ترجمته إلى لغته. أشرح الآيات بعد النظر إلى كيفية تنزلها حينها.. إذا قرأنا مثلاً (يأيها النبي)، اليوم لا يوجد نبي تخاطبه هذه الآية! لكنها اليوم تخاطب القاضي والرئيس والداعية.. وإذا قرأنا (يا نساء النبي)، اليوم لا توجد نساء النبي، فمن تخاطب هذه الآية إذاً؟ إنها تخاطب زوجة القائد أو الرئيس وتقول لها كوني قدوة للصالحات ولا تكوني قدوة للسيئات. وحاولت أن أغير في بعض الأصول، مثلاً يقولون الإجماع أي إجماع الفقهاء. لكن الله لم يقل هكذا، إنما قال: الإجماع هو إجماع الأمة. أحاور الناس فأجد أفكارهم كلها خاطئة، يقولون لي القبر روضة من رياض الجنة، قلت لهم: احفروا القبر ستجدون فيها عظاماً ولن تجدوا حوراً عين ولا أنهاراً جارية ولا فواكه. أقول لهم يا أخوتي هذا جسد، الروح ذهبت إلى ربها ويوم القيامة ستبعثون.
وكتبت في الفنون وجئت إلى الفنانين وقلت لهم: إن الله أعطاكم هبة وهذه الهبة هي الصوت. وأعطى داوود المزامير وقلت لهم إذا عبدتم الله بهذا الصوت ستدخلون الجنة. إذا صليتم كما نصلي يمكن أن تسبقونا إلى الجنة.
وقرأت في فترة السجن كل الكتب التي جمعتها بالعربية والإنجليزية والفرنسية والألمانية. وقرأت تاريخ المسيحية وكيف ضلّت. وقرأت تاريخ تركيا وماذا جرى لها، وعن أصول الأتراك. وإذا أردت الكتابة عن حركتنا أكتب عن أخطائنا حتى لا يقع فيها الناس، وأخطاؤنا معظمها في الحكم.
{ كما ذكرت أن أكبر مشكلة هي الجمود والحل لابد أن نخرج من هذا الجمود والتفكير في جوانب الحياة.. وأنا أريد أن أسألك هل استطعتم تطبيق هذه الأفكار خلال فترة حكمكم للبلاد بعد الانقلاب العسكري؟
_ الغرب لا يريدنا أن نقترب من السلطة، ويرى أن الشعوب الإسلامية والأفريقية متخلفة، ولن تستطيع الوصول إلى ما وصلوا إليه. يزعمون أنهم وصلوا إلى مستوى متقدم في حقوق الإنسان، ورغم ذلك يستعمروننا، فكيف تتحدث عن الحرية وتأتي لتستعمرني وتستغلني وتأكل أموالي وتأخذ الأفارقة رقيقاً وبالآلاف، وتصدّرهم كما تصدر الفواكه إلى أمريكا. يقولون إذا طبقوا فينا الديمقراطية سيأتي شيء اسمه الإسلام. والإسلام خطر بالنسبة لهم. فهم إذا وجدوا أن الإسلاميين فازوا بالانتخابات لا يرضون. انظر إلى تركيا، كم مرة ألغوا الأحزاب الإسلامية. نحن هنا كلما اقتربنا من الحكم جاء الأمريكان وقالوا للحاكم هؤلاء خطر عليك لابد أن تقضي عليهم، لأنهم يمنعوننا الخمر. في كل مرة يتم إبعادنا عن الحكم بضغط من الأمريكان. غلقت الأبواب في وجهنا فماذا نفعل؟ يقول الله: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ).. فقلنا إذن نأتي بانقلاب عسكري، فنحن كنا مضطرين للقيام بانقلاب عسكري.
{ عندما قررت الأمم المتحدة القبض على الرئيس “عمر البشير” بسبب “دارفور”. لماذا أيدتم هذا القرار؟ ونحن نعرف أن هناك خلافات بين الرئيس “البشير” والسيد “الترابي” ولا نعرف سبب هذه الخلافات؟
_ أمانة المال العام وقيام الطاغوت باعتقال الناس بغير حق، سبب انفصالنا مع “البشير”. وأما سبب مشكلة دارفور فهو تعب الجيش من الحروب في الجنوب، الجيش السوداني لم يعد قادراً على مواصلة الحرب في دارفور. لذا قامت الحكومة بتجنيد القبائل التي أتت من غرب أفريقيا، بالإضافة إلى تجنيد عرب البادية. فقامت هذه القوات بأفعال منكرة في دارفور، رغم أن الحكومة لم تأمرهم بذلك. لكن هذه القوات كانت متوحشة، كانوا يرمون الطفل في النار دون رحمة. فجاء الغربيون وصوروا ما جرى ونشروا الصور في شتى أنحاء العالم. وبدأت حملة ضد “البشير”، فقلت لهم في الدين الإسلامي لا توجد حصانة لحاكم، وقلت لـ”البشير” اذهب خير لك فالأمم المتحدة لن تقاضيك لأن القضاة من دول مختلفة وليس من أمريكا فحسب. وهؤلاء قد يبرئونك وقد يحكمون عليك. اذهب ودافع عن نفسك فخليفة المسلمين كان يذهب إلى المحكمة.
{ كما فهمت من كلامك أنكم لم تجدوا فرصة لتطبيق أفكاركم بسبب الضغوطات الداخلية والخارجية عليكم؟

_ طبقنا القليل منها، طبقنا المصارف الإسلامية ونشرنا اللغة العربية في البلاد، وقمنا بتعريب علوم الطب والهندسة والبيطرة، ودرسنا أبناءنا كذلك الإنجليزية، ولكن مع الحفاظ على لغتنا. الغرب كان يضيق علينا كثيراً. وجاءت الصين إلينا واستثمرت في البترول والتجارة.
{ قلتم في بداية الحوار إن سبب التخلف هو الجمود.. هل أحدثتم أي تقدم يخدم مشروع التخلص من الجمود؟
_ أرسلنا الطلاب السودانيين إلى الخارج بهدف التحصيل العلمي. لكنهم انغمسوا كثيراً في التاريخ وتأثروا بالفكر السلفي. أعتقد أن الفكر السلفي أيضاً إلى زوال.
{ كما تعرف في عام 2011 بدأت ثورات الربيع العربي وبعد هذه الثورات دخلت منطقة شمال أفريقيا والمنطقة العربية مرحلة جديدة.. ما هو رأيكم في القواعد الأساسية للحراك الشعبي الذي أشعل فتيل هذه المرحلة؟
_ سبب قيام هذه الثورات هو زيادة الوعي العام، واتساع الآفاق بسبب الانفتاح على العالم. الاضطهاد كان متفشياً في تلك الشعوب، وعندما انتشر الوعي خرج الناس. في بداية الربيع العربي قالوا: هذه ثورة شعب، واتضح فيما بعد أنهم لا يملكون خطة ولا أهدافاً واضحة يمشون عليها. الغرب لا يريد للشعوب أن تتطور، والآن يضربون كل بلد يظهر فيه الإسلام.
{ هل يمكن أن نقول إن حركة الإخوان والحركات الإسلامية الأخرى فشلت في قراءة هذه المرحلة؟
_ انظر، أنا لا أشك في إخلاص (داعش) وهم كانوا أحنافاً مثلكم وليسوا بصناعة غربية. لكن ليس لهم منهج الآن. وهناك الكثير من المخلصين الذين خرجوا من السودان ومن أمريكا وانضموا إلى (داعش). انهارت كل الدول بسبب الغرب لذلك رأى هؤلاء أن الدين هو التشدد. هكذا فهم الدين هؤلاء رغم إخلاصهم. الإخوان المسلمون أكثر ثقافة من هؤلاء المتشددين. مشكلة الإسلاميين هي في الحكم، لأنه لا يوجد كتاب يتحدث عن الحكم عند المسلمين. هناك كتاب واحد هو الأحكام السلطانية. أما في الاقتصاد فتحدثت الكتب فقط عن التركة، لكن ليس هناك كلام عن العملة وارتفاع العملة ونزول العملة،. فأنا أقول لهم لا تكتبوا لنا مرة أخرى كتباً في الصلاة والعبادات، اكتبوا لنا كتباً في الحكم في الفن والرياضة في الأفلام والتلفزيون، لأن شاشتنا مليئة بالأفلام الغربية التي ضيعت شبابنا. أما الكتب القديمة التي تحدثت عن الحكم في الإسلام فكلها تتحدث عن الخليفة هل يكون قرشياً أم لا، وهذا كلام فارغ. لابد أن يكون لدينا أدب وفكر ونجرب ونخطئ حتى نستفيد من أخطائنا.
{ كيف تقيمون تجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا؟
_ ذهبت إلى أنقرة وحضرت مؤتمراً هناك، وزرت اسطنبول. أمرنا الله في القرآن بالتدرج في تحريم الخمر والربا.. وأنتم تعملون بالتدرج.. عندما ذهبت إلى تركيا ورأيت المساجد، علمت أن هناك ديناً لن يموت وبذرة ستبقى تنتج. وتركيا الآن تمشي بتدرج.
{ إذن يمكن أن نقول إن “أردوغان” ناجح؟
_ أنا أعرف “أردوغان” جيداً. وفيما يتعلق بالانتخابات فإن الغرب سيحاول أن يقف ضدكم فهم يخافون من الأتراك جداً لأنكم منضبطون ولا تميلون للتشتت مثل العرب. الحكام العرب سيئون والجامعة العربية سيئة ونحن انقسمنا إلى دويلات.. يوماً ما سنتوحد من جديد، وقريباً سيحدث شيء، ربما سيتغير الوضع في السودان أو في تركيا.
{ في ذكرى فتح اسطنبول.. ما رأيكم في هذا الفتح؟
_ الغرب يغضب كثيراً حين يسمع فتح اسطنبول، لأنها كانت عاصمتهم، وبالنسبة لنا تذكرنا التاريخ. في الماضي كانوا يقولون لنا لا تنتقدوا أحداً لا “عثمان” ولا “معاوية” وهذا غير منطقي، ولابد لنا أن ننتقد ولكن لا نقول هذا في النار وهذا في الجنة. الله هو من سيزن الأعمال، والآن تركيا نهضت اقتصادياً وهذا أمر إيجابي.
أوروبا تعاني بسبب الهجرات المتزايدة من أفريقيا إليها، وأغلبية الأفارقة المهاجرون مسلمون.. كنا نسعى لنشر اللغة العربية لكن الجامعة العربية لم تسمح بذلك بسبب الضغوطات الغربية عليها. الآن لا يوجد دين في العالم. المسيحية انتهت واليهودية أصبحت عصبية بصورة غريبة.. ونحن المسلمين مطالبون بنشر الإسلام في كل مكان.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية