"البشير" والجنائية.. معركة جوهانسبرج
الخرطوم- عقيل أحمد ناعم
“التحدي” هو السلوك الرسمي الذي اعتمدته الحكومة السودانية تجاه المحكمة الجنائية الدولية منذ دخولها في مواجهة مباشرة مع السودان في سبتمبر 2009م بإصدارها مذكرة توقيف ضد الرئيس “البشير” وبعض قادة الدولة، فحولت القيادة السودانية الصراع مع المحكمة إلى صراع سياسي محكوم بأدوات السياسة وتقاطعاتها بعد أن وصفت الجنائية بأنها كيان سياسي معادٍ لا علاقة له بالقانون. فتعاملت الحكومة مع الجنائية باعتبارها جزءاً من ما تراه صراعاً مع القوى الغربية، فعمد الرئيس “البشير” إلى تكسير قراراتها بإصراره على السفر إلى عدد من الدول دون الاكتراث لوجود المحكمة.
{ استماتة جنوب أفريقية في حماية “البشير”
تجلت قمة التحدي للجنائية في سفر الرئيس أمس الأول للمشاركة في القمة الأفريقية بجنوب أفريقيا صاحبة العضوية في الجنائية الدولية، وهنا تحول الأمر إلى منحى موغل في الشأن الداخلي بين الأجهزة في جنوب أفريقيا متعلقاً بجدل قانوني بين المحكمة العليا التي أصدرت قراراً مؤقتاً بمنع “البشير” من مغادرة الأراضي الجنوب أفريقية وبين حكومة الرئيس “جاكوب زوما” التي التزمت بمنح جميع الرؤساء المشاركين في القمة حصانات تمنع تعرضهم لأي إجراء قانوني مستندة إلى القانون الدولي الذي يمنح حصانات دبلوماسية للرؤساء. ورغم استقلال السلطة القضائية في جنوب أفريقيا إلا أن تمسك الحكومة- المسؤولة عن تنفيذ قرارات القضاء- ممثلة في الرئيس “زوما” بحماية “البشير” واحترام تمتعه بالحصانة، يجعل من المستبعد تنفيذ قرار المحكمة. وتجلت صلابة موقف الحكومة الجنوب أفريقية المساند للرئيس السوداني في الرد الغاضب الذي وجهه “جاكوب زوما” لطلب المحكمة العليا بمنع “البشير” من المغادرة، الذي اتهم خلاله المحكمة الجنائية الدولية بالسعي لفرض عدالة الغرب الانتقائية المرتكزة على استهداف الأفارقة.
وتكامل موقف “زوما” مع موقف الحزب الحاكم (المؤتمر الأفريقي) الذي أصدر بياناً أعلن فيه أن الجنائية الدولية لم تعد مفيدة للأغراض التي أُسست من أجلها، وهي المواقف التي دفعت الخارجية السودانية للتقليل من المعلومات التي ظلت أجهزة الإعلام تتداولها طيلة يوم أمس، والتأكيد على لسان وزير الدولة “كمال إسماعيل” في تصريح نقلته وكالة الصحافة الفرنسية أن الجدل بين المحكمة والحكومة الجنوب أفريقيتين شأن داخلي لا علاقة للسودان به، وأن على جنوب أفريقيا التعامل معه بطريقتها، ويمضي للتأكيد على أن زيارة الرئيس تمضي كالمعتاد وأن عودته للسودان ستتم عقب انتهاء الاجتماع الرئيسي للقمة، لافتاً إلى أنه لا خطر على “البشير”. ذات الأمر رجحه تقرير لوكالة “رويترز” باستبعاد تنفيذ قرار المحكمة: (من غير المحتمل تنفيذ قرار المحكمة العليا لأن حكومة جنوب أفريقيا منحت حصانة قانونية لكل وفود الاتحاد الأفريقي).
{ التعارض مع الاتفاقات الدولية
لم يتغير موقف الحكومة السودانية القانوني تجاه المحكمة الجنائية منذ أول وهلة وأول قرار أصدرته ضد القادة السودانيين، بالتالي كان من الطبيعي أن يستمر ذات الموقف تجاه ما يجري في جنوب أفريقيا. وهو ما عبر عنه نقيب المحامين السابق د. “عبد الرحمن الخليفة” مؤكداً أن قرار المحكمة الجنوب أفريقية معيب قانوناً ويتنافى مع الاتفاقات الدولية ممثلة في الحصانة الدبلوماسية لرؤساء الدول، ونبه إلى أن القرار صادر عن محكمة ابتدائية تمثل مستوى أدنى في النظام القضائي، وقال: (هذا قرار ضعيف قانوناً ولا يقف على رجلين ولا يمنع الرئيس من مواصلة حضور القمة الأفريقية).
من جهته، أكد الخبير في القانون الدولي بروفيسور “شيخ الدين شدو” أن القرار أدخل جنوب أفريقيا في حرج بالغ من حيث إنه وارد بشدة طغيان المعالجات السياسية على القانونية، بما يجعل السلطة التنفيذية في مواجهة مع السلطة القضائية.
{ سوابق معززة للموقف السوداني
اعتادت الحكومة السودانية اعتبار أي تحرك من الجنائية تجاه السودان محاولة لتقييد حركة الرئيس وجعل السودان تحت الضغط دون أن يكون متوقعاً إنفاذ أي من قراراتها، لذلك أرجع نقيب المحامين السابق قرار محكمة جنوب أفريقيا إلى ضغوط تمارسها جهات تسعى لإحراج حكومة “جاكوب زوما”، وقال: (الحكومة دعت البشير وهي تعلم أنها موقعة على ميثاق المحكمة الجنائية ما يعدّ تحدياً للمحكمة وعدم اهتمام بها)، لافتاً إلى سابقة مشابهة عندما كان “البشير” ينوي زيارة كينيا، وتحركت محكمة كينية لإصدار قرار مشابه بتوقيف “البشير” حال وصوله الأراضي الكينية، وقال: (كلها تحركات تتم بإيعاز من دول أوروبية)، وأكد فشل كل هذه التحركات، مشيراً إلى أن العدو الأول للغرب “روبرت موغابي” الرئيس الزيمبابوي تحدى كل الغرب وشارك في إحدى قمم الأمم المتحدة في نيويورك دون أن تتمكن أية جهة من منعه. وأوضح أن جنوب أفريقيا يقودها تيار مناهض للمحكمة الجنائية.
{ مستقبل الجنائية
بالنظر إلى أن غالب أو كل تحركات المحكمة الجنائية الدولية تمت في مواجهة دول وقادة أفارقة، يبدو مستقبل المحكمة مظلماً في ظل حالة الرفض الواسعة، والممانعة الأفريقية التي بدأت تتصاعد مؤخراً لدرجة السعي لاستصدار قرار من الاتحاد الأفريقي بالانسحاب من المحكمة. وهو ما يتوقع “الخليفة” حدوثه تحت ما سماها (الضربات المتوالية) التي تلقتها المحكمة من كثير من الدول الأفريقية، وعلى رأسها السودان، وقال: (أتوقع اتجاه الكتلة الأفريقية للانسحاب من المحكمة).