تقارير

من أسرار وخفايا التشكيل الوزاري (1 – 2)

صراع الأجنحة والتيارات يبيض ذهباً في قفص العسكريين
الفريق “عبد الرحيم” يخلع بزته العسكرية.. و”دوسة” أبعدته صراعات الإسلاميين في وزارة العدل
“مصطفى عثمان” و”كرتي” و”السميح” أبرز المغادرين.. و”كاشا” و”جماع” و”علي العوض” عائدون لواجهة الأحداث
يوسف عبد المنان
بعد تعثر ومخاض عسير.. واجتماعات ماراثونية عقدها الرئيس المنتخب “عمر البشير” بالمركز العام للمؤتمر الوطني وبيت الضيافة، ومشاورات مع قادة التنظيم والحركة الإسلامية وبعض كبار قادة القوات المسلحة في الخدمة والتقاعد، خرج التشكل الوزاري الذي أعلن عشية (السبت)، وتوزعت اهتمامات السودانيين ما بين متابعة نهائي دوري أبطال أوروبا بين برشلونة الأسباني والسيدة العجوز الإيطالية (جوفينتوس)، ومتابعة ما يصدر من قرارات من رئاسة الجمهورية بتعيينات الحكومة الجديدة، التي تعثرت ولادتها بسبب ديمقراطية وشورى انتهجها المشير “البشير” مع قادة حزبه من أعضاء المكتب القيادي.. وقد ساد اعتقاد فيما مضى أن حزب المؤتمر الوطني بات مركزياً في منهجه وشمولياً في أدائه، ولن يجرؤ أحد على مخالفة قيادته العليا برأي أو موقف.
وبدد الرئيس “البشير” تلك المزاعم وفتح نوافذ الحوار المفتوح لأعضاء المكتب القيادي للجرح والتعديل، حيث فوض المكتب القيادي الرئيس “البشير” بتقديم مقترحات تشكيل الحكومة.. وفي الاجتماع الأول للمكتب القيادي فوجئ الرئيس برفض أعضاء الحزب لبعض مقترحاته، وتمرير فقط ثلاثة مقترحات هي تعيين الفريق “بكري حسن صالح” نائباً أول للرئيس و”حسبو محمد عبد الرحمن” نائباً للرئيس، والمهندس “إبراهيم محمود حامد” كمساعد له في مقعد البروفيسور “إبراهيم غندور” الذي تقدم الرئيس بمقترح تعيينه وزيراً للخارجية.
{ فتح صندوق “البنضورا”
فتح أعضاء المكتب القيادي صندوق “البنضورا”، ورفضوا عودة بعض الوزراء متقدمين بآراء وجدت الاحترام من الرئيس الذي خاطب أعضاء المكتب القيادي: (هذا جهدنا في اقتراح تشكيل الحكومة والرأي لكم فيما يلي حقائب المؤتمر الوطني في الحكومة الاتحادية البالغة 70%).
وقد جهت انتقادات لأداء وزارة العدل بسبب الصراعات التي طالت أوساط الإسلاميين من المستشارين ووكلاء النيابات، وانشطرت الوزارة لتيارين متنافسين، كانت ثمرة هذا التنافس أن طالت الاتهامات بعض (الإخوان) في الوزارة مثل قضية “مدحت عبد القادر” واتهام الوكيل بحيازة أراضٍ سكنية.. وأقعدت تلك الصراعات أداء الوزارة، وفاحت رائحة تصفية الحسابات، ووجد الوزير “محمد بشارة دوسة” نفسه في غمار ومعمعة دفعته ورفقاء دراسته.. وكان منتظراً من مولانا “دوسة” اتخاذ قرارات صارمة بتنظيف ثياب الوزارة من أدران الصراعات وأمراض استوطنت جسدها منذ حقبة “علي محمد عثمان يس” و”عبد الباسط سبدرات”، لذلك خرج “دوسة” من هذه النافذة.. وتكاثف النقد على أداء الجنرال “عبد الرحيم محمد حسين” في وزارة الدفاع وطالب البعض بتغييره لأسباب تتصل بطول فترته في دهاليز السلطة، حيث يعدّ شيخ الوزراء وقائدهم مع ابن عمه الدكتور “مصطفى عثمان إسماعيل”.. وعند عودة الرئيس لاجتماع (السبت) نفذ رغبة أعضاء المكتب القيادي بإعفاء الفريق “عبد الرحيم محمد حسين” من وزارة الدفاع، لكن احتفظ به في منصب والي ولاية الخرطوم.. وبذلك حقق هدفين، الأول الرضوخ لآراء قيادات الحزب، والثاني سد أبواب المطامع والرغبات في الوصول لمنصب والي الخرطوم الذي سال له لعاب السياسيين.. وحينما عاد الرئيس بمقترح تعيين الفريق “عبد الرحيم” في ولاية الخرطوم لم يجد المقترح رفضاً، حيث ينتظر أن يخلع الجنرال “عبد الرحيم” ملابسه العسكرية ويمضي في أداء واجبه التنفيذي كمهندس مدني!! عرف بالإنجاز والحماس الطاغي.. لكن ثغرة ولاية الخرطوم ونقطة ضعفها في الأداء السياسي باحتلال الخرطوم للمرتبة الأخيرة في نسبة التصويت للمؤتمر الوطني من بين كل الولايات، فهل المهندس “عبد الرحيم محمد حسين” سينصرف إلى الحزب أم لمشروعات البنى التحتية؟؟
وحصد المؤتمر الوطني ثمرة صراعات الأجنحة التي طغت على الحزب منذ المؤتمر العام الماضي، ويعد ذهاب بعض القيادات من مواقعها لأسباب (صراعية) أكثر منها موضوعية في تقييم أدائها.. ودفع المهندس “السميح الصديق النور” ثمن كرسيه بمواقفه من أزمة مصنع سكر كنانة وقضية العضو المنتدب السابق.. وقد تحفظ السعوديون والشركاء العرب على طريقة الوزير في معالجة أزمة كنانة، ووجدت تيارات داخل المؤتمر الوطني تلك الثغرة مفتوحة ليذهب “السميح” ضحية لحصاد معركته في حقل السكر.
{ حصاد العسكريين في السلطة
وصول الفريق “عبد الرحيم محمد حسين” لمنصب والي الخرطوم عزز من وجود القيادات ذات الخلفية العسكرية في السلطة بالحكومة المركزية والولايات، وبات في يد الرئيس بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة ترشيح وزير دفاع ووزير دولة بالدفاع، حيث كلف الفريق “مصطفى عثمان عبيد” مؤقتاً.. ومن العسكريين في السلطة بالولاية اللواء أمن (م) “علي حامد” في ولاية البحر الأحمر، و”الضو الماحي” في سنار خلفيته عسكرية، وهو من قادة الدفاع الشعبي، واللواء أمن د. “آدم أبكر” الذي عين والياً لجنوب كردفان وهو شخصية عرفت بالنزاهة وقيم الشهامة وحسن الأداء في جهاز الأمن والمخابرات.. وخاض سياسياً معركة الانتخابات الأخيرة وهزم الوالي الجنرال “آدم جار النبي” شر هزيمة، حيث تداعت للوقوف معه كل قبائل دارفور بما في ذلك قبيلة الوالي “جار النبي” لأن الفترة القصيرة التي أمضاها في وزارة التخطيط العمراني استطاع فيها الوصول لقلوب الناس بسلوكه القويم ومعرفته لأشواق الناس وتطلعاتهم.. وسبق للدكتور “آدم أبكر” أن تولى منصب مدير جهاز الأمن بجنوب كردفان.. واستُبدل أيضاً شيخ الولاة “عثمان يوسف كبر” بالمهندس “عبد الواحد يوسف” الذي تنقل من الداخلية للطرق والجسور، والآن ذهب إلى الفاشر ليجلس على الكرسي الذي مكث فيه “عثمان كبر” نحو (13) عاماً.. و”عبد الواحد” أيضاً خلفيته عسكرية، فهو قادم من جهاز الأمن إدارة التصنيع الحربي.. وأسندت للعميد “أنس عمر” معتمد المناقل مهمة صعبة لإدارة ولاية شرق دارفور، فهل ينجح “أنس عمر” في طي ملف صراع “المعاليا” و”الرزيقات” مثلما نجح شقيقه اللواء “دخر الزمان عمر” مساعد المدير العام لجهاز الأمن الوطني في إدارة ملف الشيخ “موسى هلال” حتى عاد للخرطوم؟؟ وتعدّ مهمة “أنس عمر” صعبة جداً.
وقد أحتفظ في التشكيل الجديد ثلاثة فقط من الولاة بمواقعهم، هم: “أحمد هارون” في الأبيض، “حسين أبو سروال” في الدمازين، والشرتاي “جعفر عبد الحكم” وثلاثتهم أبناء ولاياتهم وحققوا نجاحات جعلت تقديرات المركز تبقي عليهم.. وفي الحكومة الاتحادية ثمة وجود عسكري كبير في مجلس الوزراء، ووزراء الدولة: الفريق “عصمت عبد الرحمن زين العابدين” في الداخلية وآخرون.
{ مغادرة “مكاوي” وصعود التلميذ
بعد أن كان متوقعاً تعزيز وضع المهندس “مكاوي محمد عوض” في السلطة، جاءت مغادرته لوزارة الطاقة مفاجئة للبعض ومتوقعة للمراقب عن كثب لما جرى في ملف البترول والجازولين والطاقة والكهرباء.. ويعدّ “مكاوي محمد عوض” من الكفاءات النادرة والأيدي النظيفة وتجربته قصيرة جداً في واحدة من أهم الوزارات، لكن “مكاوي” ظل أسيراً للطريقة التي تم بها إعفاؤه وخروجه من الهيئة القومية للكهرباء بالباب الصغير.. ولم ينس الرجل الستيني كيف خرج من مكتبه بقرار كان وراءه “أسامة عبد الله” حينذاك.. ورغم الأداء المميز للمهندس “مكاوي” في ملف البترول إلا أن خلافات نشبت بينه ووزير الكهرباء والسدود المهندس “معتز موسى” قد عصفت به من أهم وزارة إلى النقل.. وقد رفض “مكاوي” من قبل مد الكهرباء بالوقود الذي تحتاجه الشيء الذي ترتبت عليه قطوعات جزئية في الشبكة القومية.. وتقدم المهندس “معتز موسى” باستقالته من الوزارة لسوء التفاهم بينه و”مكاوي”.. وخضع الاثنان لاجتماع عقده الرئيس بمطار الخرطوم وهو مغادر لمهمة خارجية.. وفي ذلك الاجتماع ثبت خطأ الوزير “مكاوي” وصحة موقف “معتز موسى”.. والآن تم ترفيع وزير الدولة “محمد زايد” لتولي أهم وزارة اقتصادية في الدولة، وهو من أبناء جبال النوبة منطقة (الغلفان) محلية الدلنج.. مهندس مدني تخرج في جامعة الخرطوم وانخرط في حقل البترول في صمت ودون ضوضاء.. ورغم انتماء “محمد زايد” للحركة الإسلامية ولاحقاً المؤتمر الوطني ظل بعيداً عن الأضواء قريباً من مهنته.. ويعد “زايد” من المقربين جداً لدكتور “عوض الجاز”.
وأبناء جبال النوبة اليوم في السلطة الاتحادية عدد كبير من الوزراء هم: “محمد زايد” في الطاقة، المهندس “صلاح ونسي” في رئاسة الجمهورية، “الطيب حسن بدوي” في الثقافة والإعلام، “علي محمد موسى” في السياحة ود.”تايتا بطرس شوكاي”.. لكن لا تزال المنطقة تشتعل بالحرب.
{ مغادرة “عثمان عمر” وعودة “منصور العجب”
من المفارقات في التشكيل أن المؤتمر الوطني قد عمد إلى خفض أعمار لاعبيه الأساسيين في محاولة لتحسين العطاء داخل الميدان، ولم يحتفظ إلا بعدد محدود جداً من الوزراء فوق الستين عاماً.. “عبد الرحيم محمد حسين” في الخرطوم، “بكري حسن صالح” في رئاسة الجمهورية، “مكاوي محمد عوض” في النقل ود. “فيصل حسن إبراهيم” في الحكم اللا مركزي.. لكن شركاء المؤتمر الوطني من الأحزاب الاتحادية يقدمون وجوهاً شاخت وقل عطاؤها، والمؤتمر الوطني في سبيل نيل رضا الشركاء يتملكه الحياء الشديد في الحديث جهراً مع الحزب الاتحادي الديمقراطي ويطالبه بالتجديد وتقديم وجوه جديدة.. وبعد أن بات “عثمان عمر الشريف” وزير التجارة السابق يتوكأ على عصاه ويشفق عليه الوزراء وأسند لابنته الدكتورة “شذى عثمان” أغلب مهام وزير التجارة.. جاء التغيير الجديد لصالح شيخ آخر أكبر عمراً من “عثمان عمر الشريف” بإعادة د.”منصور العجب” الذي سبق أن عُيّن وزير دولة بالخارجية وتم إعفاؤه وغادر السودان إلى لندن ليمكث هناك حتى عُيّن مرة أخرى.. ود.”منصور يوسف العجب” الذي خاض انتخابات 1986م، وهو مزهو بشبابه وعلاقاته الواسعة مع التيارات اليسارية، عاد من التجمع الوطني الديمقراطي وهو قريب من السيد “محمد عثمان الميرغني”.. ويعدّ الأمير “أحمد سعد عمر” أيضاً من القادة التاريخيين للحزب الاتحادي الديمقراطي، وكان من الناشطين في الجبهة الوطنية المعارضة لنظام مايو مع “عثمان مضوي” و”إبراهيم السنوسي” و”مهدي إبراهيم”، وربما كان د. “أحمد بلال عثمان” أصغر سناً من هؤلاء، إلا أن “أحمد بلال” قد عين لأول مرة وزيراً للصحة في عام 1986م ممثلاً للحزب الاتحادي الديمقراطي، ومنذ ذلك الوقت ظل د. “أحمد بلال” يتقلب في المناصب الوزارية ذات اليمين وذات الشمال.. والشعب، على أمل، ينتظر التجديد.
{ “كاشا” و”علي العوض” وكسلا
من مفارقات التشكيل الجديد أن الرئيس “البشير” تقيد بتعيين كل القيادات التي رشحت في ولاياتها من خلال الانتخابات الماضية، باستثناء الفريق “عبد الرحيم” في ولاية الخرطوم، و”عبد الحميد موسى كاشا” في النيل الأبيض، وكل الولاة الذين تم تعيينهم من الذين فازوا في السباق لمنصب الوالي في ولاياتهم الأصلية، وتعدّ عودة “كاشا” مرة أخرى لدائرة الضوء أكثر من مفاجئة في التشكيل الوزاري مثل تعيين”علي العوض” والياً على الشمالية التي تعدّ من الولايات شديدة الحساسية رغم الاستقرار.. وكان “علي العوض” قريباً من منصب الوالي في كسلا منافساً للأستاذ “محمد يوسف” الذي لم يشفع له حصول ولايته على أعلى الأصوات في الانتخابات.. لكن حالة الصدام الأخير مع متنفذين في الحزب مركزياً أضعفت حظوظه في الترشيح لولاية النيل الأبيض، وجاء اختيار “آدم جماع” القيادي البارز في المؤتمر الوطني لمنصب والي كسلا كمفاجأة من مفاجآت التشكيل الوزاري، وقد استطاع أن يخوض معركة مع “عثمان يوسف كبر” في الفاشر وحصل على المرتبة الثانية من الأصوات.. و”آدم جماع” من أبرز قيادات التيار الإسلامي في دارفور، مثقف ثقافة عميقة، وكان “الترابي” يعدّه من قادة المستقبل.. يحظى بثقة قطاعات واسعة في دارفور ويجمع عليه أهله “الزريقات، الجلابة، الهوارة، الزغاوة، البرتي والفور”، وكان مرشحاً لخلافة “كبر” في الفاشر إلا أنه رحل شرقاً لأرض السواقي والختمية.
أما عودة “محمد حامد البلة” مرة أخرى فهي مثل عودة “مصطفى سعيد” في (موسم الهجرة إلى الشمال)، وعودة الشاعر الليبي “أحمد رفيق المهدي” الذي حينما فرض عليه المستعمر الطلياني الخروج من طرابلس قال قولته الشهيرة: (خرجت من موطني مثل الطريد فما ودعت خلاً ولا أدركت ثاراتي).
وقد أُقصي “ود البلة” من السلطة يوم معركته الشهيرة مع أعضاء حزبه في سنار، لكنه اليوم لا يعود لسنار مثل “محمد عبد الحي” بل يعود لنهر النيل الذي حينما صدر قرار بإعفائه، وكان محافظاً لمروي، خرجت النساء في وداع الشاب أنيق المظهر معطر الثياب وهن يرددن: “يحفظك الله يا ود البلة”.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية