مسالة مستعجلة
سحر الإذاعة
نجل الدين ادم
لا يعرف سحر الإذاعة إلا من ألفها، فقد شكلت خلال الحقب الماضية الوجدان الفني والسياسي للكثيرين، فكانت محطة للتثقيف واتكاءة مع الشعراء والفن الأصيل، وسفير يجوب المحطات الخارجية وجواب يطمئن، فقد خرج أثير الإذاعة شخصيات ذائعة الصيت إلى دروب الحياة فكانت هي المدرسة والجامعة، كيف لا وقد عمل المذياع في نقل برامج في شؤون الحياة والدين والأدب والسياسة وغيرها.
ظلت الإذاعة بما حملته من عظمة عنواناً للثقافة وأهالي الريف يستمعون لأخبار أهلهم في الخرطوم ولندن والسعودوية قبل أن يحل علينا التلفون والموبايل، فكان جهاز الراديو هو الصديق الجامع للكل، الجميع يحملونه في دلال واهتمام بالغ يخشون عليه كما الطفل من هبات الأتربة، فيلبسونه (خُرتاية) قماش أبيض، فتجده معلقاً على الحائط وعلى دراجة الغاشي والماشي. وأنت تدخل السوق تجد الراديو عنصراً أساسياً في كل ركن قصي، في محل الترزي والاسكافي والتاجر وغيرهم.
فالإذاعة ظلت هي الوجهة الأولى لكل من يرغبون في تغيير النظام، فأول ما يذكر في خطة أي انقلاب كان مبنى الإذاعة السودانية، وكذلك ظلت الإذاعة هي ذاكرة الأمة التي لا تتمحي فما أن يقوى عود أي فنان أو مطرب، إلا وتكون وجهته الثانية لتسجيل أغنياته، فكانت بمثابة عبور لعالم الشهرة بعد أن تجيز صوته. لم تقف الإذاعة عند هذه المحطات فما من خريج في ذلك الزمن الذهبي إلا ويذكر يوم أن حملت له الإذاعة السودانية وأسرته الخبر اليقين، ونسائم النجاح تهب وهي تنقل نتيجة امتحانات الشهادة السودانية لتعم زغاريد الفرح.
برامج .. وبرامج ما تزال في ذاكرة الكثيرين وحقبة الفن تمضي بلا انقطاع توثيق للغناء الجميل وللتاريخ الناصع، وكذلك تفسير القرآن الكريم والراحل البروفسور “عبد الله الطيب” وغيرها.
الإذاعة ظلت رغم الحداثة وتعدد الوسائط الحديثة تاريخاً راسخاً ومستقبلاً يضاهي كل الوسائط بخاصة عند أهلنا في الريف الذين لم ينفكوا أبداً من صحبتها في حقول الزراعة وفي الفرقان، فكانت أثمن الهدايا في زمن مضى جهاز راديو يأتيك من صديق أو حبيب.
تميز مذيعو وفنيو الإذاعة السودانية عن غيرهم فأعطوا الإذاعة طعماً ومذاقاً خاصاً رغم عدم وجود الصورة، فتجد كل المبرزين من جيل العمالقة من الإذاعيين هم خريجو الإذاعة السودانية فالتحية لهم جميعاً. عبارة هنا أم درمان التي عبرت إلى خارج الحدود وكانت عنواناً بارزاً وراسخاً لا ينساه أحد، ستظل نبراساً يعيد عبق الزمان الماضي وتهيئ للزمان الجاي .. الحديث عن سحر الإذاعة طويل وعميق لا تكفيه كلمات فهو حديث ذو شجون حرصت أن يكون هذا المقال محطة أولى، على أن نعود ونذكر بأوائل الذين أثروا الساحة الإذاعية، وتلك البرامج التي سطرتها الذاكرة بأحرف من نور. التحية لكل خريجي هذه المدرسة الخالدة ولنا عودة .