رأي

هل سيتضمن خطاب تنصيب الرئيس اليوم الإعلان عن إنشاء سلطة الفكر والثقافة؟!

نحن سبعة من قادة المراكز الفكرية، نبادر بالتعبير عن رأي أكثر من سبعين مركزاً فكرياً، وتشاطرنا الأفكار أكثر من ثلاثة آلاف منظمة مجتمع مدني كان لها دورها في العمل الإنساني، وشاركت في العديد من الفعاليات العامة والعادية والطارئة، وشكلت شبكة ساعدت في مراقبة الانتخابات الأخيرة. نحن المبادرين هؤلاء سعدنا بإعلان الأخ رئيس الجمهورية لرغبته حسب برنامجه الانتخابي المعلن في ملتقى الفكر والثقافة الذي انعقد بقاعة الصداقة قبل الانتخابات الأخيرة، وذاك لرغبته في قيام وإنشاء وتأسيس السلطة الفكرية الثقافية.. سعدنا بذلك، لأننا نحسب أنها الحلقة المفقودة في تنظيم الدولة السودانية الآن ولأنه منوط بها القيام بمهام واختصاصات جسام لا تقوم بها سلطات غيرها. وهي سلطة قوامها العلماء، مثلما القضاة قوام السلطة القضائية، والنواب قوام السلطة التشريعية، وكوادر الخدمة المدنية قوام السلطة التنفيذية المدنية، والضباط قوام السلطة التنفيذية العسكرية الأمنية.. إذن هي سلطة ترتكز على العلماء.. وتمثل مرجعيتها أداة التنسيق بين السلطات دون التدخل في مهامها الأصلية، بما يمكّن من جعل المعرفة العلمية التوحيدية هي مطية التطور والتقدم. ويجب عليها أن تتصدى فكرياً لمن ينال من توجهات الأمة وعقيدتها وأخلاقها، كان ذاك النائل فرداً أو جماعة، منها أو من غيرها. كما أنها تقوم بالاطلاع فكرياً وعلمياً على تجارب الآخرين في العالم أجمع للتعرف على أحدث ما توصلت إليه البشرية في المجالات المعرفية المختلفة، والتأكد من اطلاع جهات الاختصاص عليها، والاستفادة منها في كل المجالات الحياتية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية والثقافية.
إننا أمام لحظة تاريخية، وأمام نقلة تنظيمية كبرى في دولتنا، نكمل بها ناقص السلطات بالتنسيق، ونتمم بها بالعلم جودة الإدارة، ونعلي بها مظلة العلماء في شكلها الجماعي خلاف الشكل الفردي السائد الآن في طرح الآراء الفردية في الهموم الجماعية، والترويج لها دون السكون إلى رأي الأغلبية العاصم من التشرذم والتفكك والبوار. فالدائرة العلمية الاختصاصية هي بوتقة الانصهار للأفكار والخبرات، وعائدها الكلي هو المرجعية الفكرية الممثلة لرأي الجماعة العلمية غير المنحازة ولا العازلة، ورأي الجماعة لا تشقى البلاد به رغم الخلاف ورأي الفرد يشقيها.
وباكتمال تأسيس الدوائر العلمية الاختصاصية تصبح السلطة الفكرية هي الحكم والمرشد والموجه لخطوات الدولة ومسارها الكلي نحو تحقيق الغايات العليا للأمة في البقاء في رفاه وحرية تحت القيم الفاضلة. ويصبح من صميم اختصاصاتها قيادة النخب الفكرية والعلمية والثقافية بما يقود إلى توحيد توجهاتهم وتعضيد جهودهم لتحقيق مصالح الأمة العليا دون الحد من حريتهم العلمية والمعرفية والفكرية. ففي تاريخ الأمم الواعية الحية الفاعلة القوية المستنيرة وقفات، يقفها قادتها وعلماؤها ومفكروها لينظروا ويقيِّموا: ما هي الأهداف التي كانوا يعملون لتحقيقها؟ وماذا أنجزوا منه؟ وماذا تبقى لهم منها؟ ثم يعيدوا تحديد الأهداف من جديد ليعيدوا التخطيط لتنفيذها. وفي كل مرحلة من المراحل تقف هناك وتتبرج فكرة واحدة عالية طاغية مسيطرة، تتجلى كالعروس. ويقف من حولها القادة والعلماء والمفكرون يتأملونها كماً وكيفاً وحالاً ومآلاً وطولاً وعرضاً وسقفاً وأرضاً، ثم يلخصوا تأملاتهم حولها في أسئلة محددة: ما هي؟ ولماذا هي؟ وكيف تكون؟ وفي تاريخ أمتنا السودانية كانت الوقفة الأولى حول العام 1950 وما قبله وما بعده. وحينها فقد كانت الفكرة المسيطرة هي الاستقلال: لماذا هو؟ وكيف يكون؟ وكانت الثانية بعد ثلاثين سنة حول العام 1980 وما قبله وما بعده، وحينها فقد كانت الفكرة المسيطرة هي النهج الإسلامي، فكانت الأسئلة هي: النهج الإسلامي لماذا؟ والنهج الإسلامي كيف؟ والوقفة الثالثة الآن بعد ثلاثين سنة حول العام 2010 وما بعده، والفكرة المسيطرة هي السلطة الفكرية، والأسئلة تكون: السلطة الفكرية ماذا – ما هي؟ والسلطة الفكرية لماذا؟ والسلطة الفكرية كيف؟
وأقدار الله قد شاءت أن يكون الزعيم “إسماعيل الأزهري” هو رجل الاستقلال، وأن يكون الرئيس المشير “النميري” هو رجل النهج الإسلامي. وتشاء الأقدار أن يكون الرئيس المشير “البشير” هو رجل الفكرة، ورجل دولة العلم والعلماء، وأن يكمل هيكلة الدولة السودانية الحديثة بإنشاء وتأسيس السلطة الحاكمة الرابطة والمنسقة لكل السلطات الدستورية. تلك هي سلطة العلم والعلماء والمفكرين، حيث يكون العلم هو المرشد والموجّه لأجهزتنا العدلية والنيابية والتنفيذية، ولرؤانا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية. وقد بادر قصار النظر الإماع بالقول أن تنشئوا سلطة فكرية لم تنشئها أوروبا ولا أمريكا- هل أنتم أفضل منهم؟ وكان الرد: أي نعم! فهم يعتمدون على الفلسفة التشطيرية وهي لا تهدي إلى فكرة مرجعية واحدة، بل أفكار وآراء وعلماء قلَّما يتوحدون بإجماع حول فكرة، ويتبنون نظاماً قيمياً هوائياً يشتت ويفرزع ويفضي بأخلاقهم إلى الحضيض، ويسري عليهم القول: وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت، فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا، فقد ذهبت أخلاقهم وهم لا شك ذاهبون!! لكننا نحن نتبنى الفلسفة التوحيدية المؤدية إلى المرجعية الفكرية العلمية الواحدة المستقاة من الأصل المطلق وهو الوحي.. إذن نحن نملك ما يمكن أن نؤسس عليه سلطة فكرية مرجعية جامعة.
وليس هذا فقط لأننا نريد إنشاء سلطة، ولكن لأن إنشاء هذه السلطة ضرورة قصوى تمليها علينا كمية البحوث العلمية الضخمة المتوفرة الآن في الجامعات والمعاهد والمراكز الفكرية، والتي ترقد خاملة في الأضابير والأدراج دون أن تجد من يدفع بها إلى حيز التطبيق ليعالج بها هموم المواطنين في جوانب الحياة المختلفة، ومن ثم تعيد توجيه البحوث لخدمة مصالح الأمة الكبرى في البقاء في رفاه وحرية تحت القيم الفاضلة، ثم هي ضرورة قصوى لتشرف وتوجه وتقيس مسارات الأمة في طريق النماء والتقدم، لتضع أمتنا في موضعها الصحيح في مقدمة الأمم خلاف القياس الذي تتبناه (UNDP) وتضعنا دائماً في مؤخرة الدول. كذلك السلطة الفكرية ضرورية لإعانة الرئيس لتحمل مسؤولياته للتنسيق بين السلطات المختلفة، وبالتالي تتسق الجهود والخطى وتوجه الإمكانيات لتتسارع خطى التطور والإصلاح، ونتفادى العثرات مثل تلك التي أصابتنا في اقتصادنا بعد فصل الجنوب نتيجة عدم تنسيق السياسات وعدم استشراف واجبات المستقبل. وليطمئن الذين يخشون أن يؤثر إنشاؤها على الميزانية العامة، وذلك لأنها سلطة قوامها العلماء، والعلماء أصلاً عاملون في مؤسسات علمية وفكرية حرة ومستقلة، وهناك مراكز حرة لن تبخل بدعم السلطة طوعياً حتى تشب وتنشأ معتمدة على موارد مبتكرة لن يتأثر بها الوضع الاقتصادي للبلاد.
عليه يكون إنشاء السلطة الفكرية من الضروريات والأولويات التي لا تسبقها أولوية.. ولو أن الرئيس “البشير” في فترة رئاسته الحالية التي ستنتهي في (2020)، لو أنه لم يفعل أي شيء خلاف إنشاء السلطة الفكرية والثقافية لكفاه. وهو بإنشائها يكون قد أسس لإكمال برنامجه للإصلاح الفكري، مضافاً إلى إنجازه برنامج الإصلاح الاقتصادي، وتبنيه برنامج الإصلاح السياسي، يكون بهذا قد وضع الأمة السودانية في منصة الانطلاق للعلا والثريا.. وحينذاك يتهيأ هو ليغادر منصة الرئاسة مرتاح البال وقرير العين هانيها ليسجل له التاريخ أنه الرئيس الذي سجل رقماً قياسياً بقيادته وتنفيذه لأربعة انقلابات هي: انقلاب عسكري، ثم انقلاب اقتصادي، ثم انقلاب فكري، ثم انقلاب سياسي.. بالتوفيق والمباركات من رب العزة.
فهل أمة السودان مهيأة لتستقبل اليوم تدشين جمهورية العلم والعلماء، وجمهورية الإيمان تحت شعار نشر الحب وإحياء الأمل؟!

الطيب إبراهيم محمد خير
رئيس مجلس أمناء مركز التنوير المعرفي
عن مجموعة مراكز الإجابة وشبكة المراكز الفكرية وشبكات منظمات العمل الطوعي

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية