حوش فلاتة بـ(سوق أم درمان) ..قصة ورائحة بهار لثقافات تقليدية
أم درمان – آيات مبارك
كنت أحسبه منذ زمنٍ مضى عبارة عن حوش واااسع به باب كبير لنسوة قويات يعملن بجد، والعرق يتقطر من أجسادهن، ورائحة الشطة والشمار تستلقى على ملابسهن، لكني وجدت صورة مغايرة لحياة كانت هنا.. وفي طريقي إلى هذا المكان الذي بحثت عنه كثيراً.. ولم أجده ربما يعود ذلك لعدم سؤالي. فالكل في أم درمان وسوقها يعرفون (حوش فلاتة) أو (فولاني) بالاسم العلمي الحقيقي، وهن نسوة يروين حكايات متقطعة ربما حقيقية كانت أو بقايا خيال من قصص مروية لهن دارت في هذا المكان اللائي تضاربت أقوالهن حول ميلاد وجوده، وبأصوات متداخلة بعد سؤالي (المكان من متين؟) (واحدة قالت: من قبل 150 سنة) وأخرى: من قريب الـ 200 سنة) وأكبرهن قالت: من بدري شديد.. نسوان هنا كبااار وكتااار ماتوا.. لو لقيتيهن كانن حايكلمنك..)، وفور دخولي لهذا الحوش وجدت ميداناً واسعاً أو لنقل منزلاً مهدماً بمساحة شاسعة بيني وبينهن وهن يجلسن على (ضل العصر الرامي) وبعض كلاب تعوي و(تتناوم).. رغم قصر المسافة بينهن وإحباطي – فهن قلة – إلا أن هناك بعض الخطرفات قد عصفت بذهني، تذكرت رحلات الحجيج في التاريخ وهجرات الفلاتة (الفولانيين). وأتاني “نزار قباني” منشداً:
لو كنت في مدريد في رأس السنة
كنا رأينا في مغارات الغجر
كيف يكون الهمس بالأصابع
والبوح والعتاب بالمشاعر
وكيف للحب هنا.. طعم البهار اللاذع
ومع الأسف وجدت صوت نشيجٍ آتٍ من هذا الحزن الأكبر.. وأصابع أصابها الوهن ولم أشتم رائحته البهار، لأني (لم أر طحيناً ولم أسمع ضجيجاً).. بل صمتٍ ممض.. أوانٍ فارغة.. و(فنادك) و(غرابيل) تشكو وطأة (جيل القشارات الكهربائية).. يا ترى في أي زمانٍ أتت إلى هنا.. هاأنذا أخيراً وصلت إلى حيث النسوة.. سألوني عندك بهارات عاوزة تسحنيها؟ أفصحت عن مهمتي تناولنني في وقت واحد.. كتااااار جوا زيك هنا . ما استفدنا منهم حاجة.. أنتو المستفيدين بس.. يوم واحد ماجاتنا حاجة.. (نظرات ريبة.. وكلمات شك طوقنني بها هؤلاء السيدات.. وبعد لأي وعنت أفصحن عن أنفسهن وبعد إقناعهن أن ربما مسؤول أو رأسمالي يرى هذا الحال ويرفعكن منه. فأجابتني إحداهن اسمها “حواء حسب الرسول” قائلة: (أنا من الفقراء والمساكين.. وفي حاجة لمن يعينني على مصاعب الدهر، لكن بشكر ناس المحلية والشرطة في سوق أم درمان لأنهم بحمونا وما في زول بسألنا.. والحملة بتجي وبتعرفنا، وفي عقيد في الشرطة قاليهم الناس ديل شغالين بضراعهم خلوهم ما تسألوهم. أما “آمنة يحيى” و”أميمة عوض” التي أتت تحمل (صحن بليلة) لوجبة الغداء.. تذوقتها معهن ، هن فتيات في مقتبل العمر.. نظراتهن مختلفة ينبض منها بعض الوعي والصمت.. ولم يخرج منهن سوي بعض الضحكات الخجلة والهمهمات الخائفة.
أما “حاجة فاطمة صالح” فقالت: الحوش ده في ناس ساكنين فيه وفي ناس مشوا مدني.. بنات صغار بشتغلوا في البيوت.. ده “حوش عبد الغفار” . زمان عمارات دي كلها ما كانت قاعدة. وما في سحانات الناس تدق من الصباح ما توقف إلا المغرب، لكن (السحانة) قطعت لقمة عيشنا. وفي تجار ما بمشوا للسحانات لأنها بتكمل البهارات. والحديدة بتشيل ريحة البهارات.
جيران حوش فلاتة
أما الخالة “فتحية” جارة الحوش خرجت لتحيينا قائلة “أنتوا ناس عز الدين الهندي “راجلي المؤذن إتكسرت مخروقتو.. وبقيت كل يوم بفتح المسجد قبل صلاة الصبح.. نحن عاوزين حق الآخرة.. الدنيا ما عاوزين فيها حاجة . وأنا بت شيوخ.
الله قاااعد
“زليخة حمزة” أكبرهن سناً رسمت السنوات عليها خطوطاً عدة لم تتركني أسألها.. طفقت تحكي بسلاسة ودقة عن مسيرة حياتها فقالت: (جيت من مدني وأنا كبيرة كدي، عندي ولدي قبضوه في الإلزامية عدى كم سنة، ولدي ما لقيتو جيت الخرطوم أفتشو، ناس يقولوا مات وأنا أقول يمكن ما مات، المهم في النهاية جابوه حي. لكن عيان راقد في (السلاح الطبي) بقى كويس.. بعنا حاجاتنا وعرسنا ليه جاب ثلاثة عيال .. وتاني سافر حرب.. بعديها مات.. وما أدونا حقوقو.. خلى لي أولادو وزوجتو.. وحتى راجلي أنا عيان هناك في البلد.. عشان كده أنا بجي هنا كل يوم أدق البهارات أطلع منها بـ(8) جنيه أو (7) جنيه إذا جاني زبون واحد وأرجع البيت المسا في أم بدة. (الحالة صعبة لكن نسوي شنو؟ الله قاااعد) أجبتها ونعم بالله.. الحي القادر.
يا (حاجة زليخة) كوني صيفاً أفريقياً.. كوني حقل بهار يلذع.. كوني الوجع الرائع.. غني.. أبكي.. عيشي.. أحكي.. لنا عن حكايات نساء الفلاتة في ليالي الصيف القصيرة.. وأغانيهن التي تمجد العمل.. والنسوة صاحبات الخصوبة العالية.. ثم أناشيد الحصاد.. وأغنيات الحجيج.. ضعي أحفادك على ظهرك وسيري في الحياة.. وأتركينا.. فأنتِ تنتظرين منا وقفة.. قد تطول حاجة “زليخة”.. قد تلمع منا فكرة.. بأن تقف هذي الفنادك ومدقاتها والغرابيل حتى تكون بذرة لعمل سياحي.. في هذا السوق الكبير.. عندما يأتي السياح ندعوهم قائلين.. الما مشى حوش فلاتة ما جا أم درمان.. ليأخذوا الصور التذكارية معهن وهم يحملون حبات يضعونها على جيبوهم يشتمونها بأنوفهم كتعويذة لجلب الحظ ثم يعطسون ضاحكين.