النشوف اخرتا
(ضاناية)..!!
سعد الدين ابراهيم
اشتقت لـ(ضاناية) ذلك الذي كان في اعتقادي رمز النقاء والبراءة في ذلك الحي الذي كنت أقطنه.
افتقدت شوارعه الهادئة والضاجة.. افتقدت وجوه النساء اللواتي يعلنَّ أن الشقاء في خطر، ووجوه الشيوخ الذين ضاقت بهم المنازل فتفيأوا (ضل الضحى) وأصبحوا تسلية للمارة بينما يتسلون هم أيضاً بالمارة.
(ضاناية) كان على مشارف الأربعين.. يعمل مراسلة بمدرسة (الحكمة)، يسكن في منزل ورثه مع عدة أخوة وأخوات من أمهم، التي كانت تعمل (فراشة) في ذات المدرسة.. فمنحوها قطعة أرض تضامناً مع كدحها.. وبنته بعائد بيع حاجيات بسيطة لـ(شفع المدرسة).. كان نصيبه حجرة مع (راكوبة) صنعها بـ(التلتلة) وبعض (القنا) وبروش قديمة مع (شوالات) متفرقة. تزوج لا أدري كيف، لكنها على كل حال إنسانة تشبهه.. ما رأيتها وما سمعت أن أحداً رآها، ربما الجيران الأخص فقط.. ما رأيته متبرماً.. بل يطفح دائماً بالسعادة.. أتلقف عباراته التي تملأني بالحماس حسب وقت مصادفتي له، ثم يذيع عليّ نشرة أخباره البسيطة السعيدة:
ـــ تعرف يا معلم ربك ما كريم.. “عجيب” سيد الدكان أداني كيسين عيش بايتات هدية.. قطعتهن ليك يا معلم في صحن كبير.. فيهو يا معلم موية فول.. وموية جبنة.. وبصل.. وطماطم ودكوة.. شفت النعمة دي.. ضربناها مع الأولاد.. حامدين شاكرين.
ويقبل يده ظاهراً وباطناً.. هذا وقت الإفطار.
ووقت الغداء يبثني خبر العدس والموز اللذين اشتراهما:
ــ ما صارفين يا معلم.. قلنا نفرجها شوية عدس وموز.. عليك الله شفت النعمة دي.
يسامرني وهو لا يكاد يعرفني.. مرات يخاطبني بالمعلم ومرات بالدكتور.. ومرات بالوجيه.. ومرات بالأستاذ.. مرة شاهدني في التلفزيون.. انتظرني اليوم الثاني بفارغ الصبر وعندما رآني هلل وأخذ يصيح، نادى أولاده الثلاثة.. أكبرهم في الرابعة.. يرتدي فانلة تغطي نصف بطنه المنتفخة.. يسيل أنفه ولا يحتاج إلى كبحه.. وكل مرة يلعق بلسانه المادة السائلة فتزجره على ذلك فيقول لك (ضاناية): (ما بتجيهو حاجة ما متعود).. أوسطهم فتاة تركت شعرها الجميل دون تمشيط فبدا منكوشاً مجعداً بسبب الأتربة المخلوطة بالدهن الرخيص الذي تستخدمه لماماً.. الأصغر كان ولداً عادياً.. لا يرتدي سوى (حجاب) أو تعويذه معلقة على رقبته لتحرسه من العين والحسد.
طلب من أولاده أن يسلموا على عمهم الذي ظهر في التلفزيون:
ـــ شفتك في تلفزيون المدرسة قعدت أكورك.. والله ده صاحبي.. والله ده صاحبي.
ما صدقوني سألوني:
ـــ أها اسمو منو.. أحرجوني.. هو إنت اسمك منو؟
صادفته ذات مساء متهللاً.. كان في ندوة في المدرسة:
ــ مرطبات يا معلم.. الباقي قالوا لي شيلو.. برتكان يا معلم.. تفاح يا معلم.. موز يا معلم.. باسطة يا معلم..!
ـــ ما شاء الله.
أقول له وامضي، بينما صوته يلاحقني بالعبارات:
ـــ بيتزا يا معلم.. بسكويت يا معلم.
وكلما ابتعد يعلو صوته:
ـــ حلاوة يا معلم.. بارد يا معلم.
لا أراه يتبرم أو يشكو، مرة اجترأت وسألته:
ـــ إنت ما بتزعل لما يقولو ليك (ضاناية)؟
يصفعني متسائلاً:
ــ ضاناية يعني شنو؟
فكرت ثم أقول:
ـــ نعجة..!
فيقول:
ـــ ما كعب.. النعجة ما خلقة الله، النعجة ما كعبة.
مرة كدت أبكي.. قبل العيد تسامرت معه.. قال إن همه أن يتحصل على (طمناطشر) جنيه بس..!
سألته:
ـــ لماذا؟
قال:
ـــ أكسي الأولاد.. شبط بي ألفين وردا بي ألفين.. وقميص بي ألفين للولدين وفستان بي ستة للبت..!
قلت له:
ـــ إذن ابشر.. هاك هذه ثلاثين جنيهاً..!
فقال ببساطة:
ـــ أسوي بيها شنو.. كفاي عشرين طيب..!
قلت له:
ـــ شيل القروش بتحتاج ليها..!
فقال لي:
ـــ لا والله بتتعبني..!
تساءلت في بله:
ـــ بتتعبك؟
فقال:
ـــ جداً والله.