أخبار

في أعماق هبيلا!!

عندما هبت رياح الاغتراب لدولة ليبيا في السبعينيات، من القرن الماضي، عبر الصحارى القاحلة والدروب الوعرة.. وركوب الصعاب.. من أجل الدينار الليبي، الذي فاض عن حاجة سكان طبرق وبنغازي.. وطرابلس.. أصبحت أنشودة نساء دار حامد، في بادية كردفان، للشباب الذين اتجهوا إلى ليبيا من أجل المال، وبعد أن خرج الرعاة والمزارعون.. والحكامات ينشدن..
حليلك يا بليلة
مشيت الصحراء عديلة
وجبت المال والشيلة
ماك قعيد الحلة ولا ماشي
هبيلا أم غلة..
تنشد الفتاة وتحرض الشباب للهجرة إلى بلاد بعيدة.. من أجل المال الوفير.. وتعرض بالكادحين، الذين يتوجهون صوب منطقة هبيلا، حيث المشاريع الزراعية، التي بدأ تخطيطها في سبعينيات القرن الماضي، ضمن خطة وضعها خبراء في الزراعة والاقتصاد، لتطوير زراعة البلدات الصغيرة وإدخال التقانة الزراعية.. وغابت عن الذين خططوا مشاريع الزراعة الآلية في جنوب كردفان الأبعاد الاجتماعية والسياسية.. والآثار الناجمة عن توزيع أراضي النوبة على التجار والمستثمرين.. وهبيلا قبل قيام مشروعات الزراعة الآلية، كان يقطنها أربعة فروع من قبائل النوبة، هم الكواليب في مناطق دلامي.. ومارديس.. والأرض التي قامت عليها مزرعة الدولة وهي مزرعة تجريبية.. والنوبة الهدرا وأم حيطان في جنوب هبيلا، والنوبة الكرورو.. والكافير وكدلجي.. وكرتالا.. أو ما يعرف بالجبال الستة، إضافة إلى الأجانج في التكُمة، والغُلفان في الكرقل.. ودلنج الخلا.. وكتب “د. منصور خالد”، عن الحيف والظلم الذي حاق بالسكان المحليين في الأرض، التي تم توزيعها كمشاريع زراعية.. وبالطبع هناك مجموعة كبيرة من قبائل البقارة تسكن الأرض المعروفة بهبيلا، مثل الحوازمة دار شلنقو.. والحوازمة أولاد غبوش.. والعياتقة، وهؤلاء أصولهم من البديرية. وقال “د. منصور” في كتاب “جنوب السودان في المخيلة العربية”، الصورة الزائفة والقمع التاريخي في صفحة (258)، ماذا تعني الديمقراطية بمضامينها الغربية، لفتى النوبة “كوكو” وفتى الانقسنا “عدلان” وفتى الرنك الدينكاوي المسلم.. و”منصور كتب قبل أن يصبح فتى الرنك المسلم “محمد دينق” أجنبياً، في وطنه السودان القديم”. وهؤلاء يشهدون على مدى أربعة عقود من الزمان، منذ الاستقلال، أرض آبائهم وأجدادهم، تستزرع في هبيلا “جبال النوبة” وفي أقعدي القرايين “النيل الأزرق”، وفي القيقر بالرنك، أعالي النيل، دون أن يفيد منها أهليهم فائدة كبرى مباشرة، كانت أو غير مباشرة. فمن بين مائتي مزرعة في أراضي النوبة المستصلحة في هبيلا، لا يملك أبناء المنطقة غير أربع مزارع، واحدة منها لتاجر وثلاث لجمعيات تعاونية من أبناء الجبال. أهل الحل والعقد، في زماننا هذا، لم يملكوا حتى الفطرة السليمة، التي هدت الصوفي السوداني الزاهد “إدريس ود الأرباب” لرفض أرض أقطعها أياه ملك سنار، وهو يقول: “هذه ليست أرضك حتى تمنحها لي، هذه أرض النوبة، اغتصبتموها منهم” ذلك ما كتبه “د. منصور خالد”، نتفق أو نختلف معه،  يبقى “د. منصور”، من الباحثين القلائل الذين يضيئون عتمة التاريخ السوداني بجرح الثوابت وخدش المقدسات.. وليت الذين يتبرعون هذه الأيام بتفسير ما نكتب يملكون، ولو قدراً ضئيلاً من الوعي، حتى يحرفون الكلم عن موضعه، ليصدقهم العقلاء، غير السادرين في الجهل، وهم يتأبطون شهادات الدكتوراة، وهي شهادات لا تزيدهم إلا بقدر تجميل الزينة للحمار (الدبلاوي). وأصبحت هبيلا في جبال النوبة، 45 كلم شرق الدلنج، منطقة جذب اقتصادي.. توافد عليها التجار من كل أطراف الدنيا.. حتى الأغاريق من بلاد الأساطير والفلسفة جاء “يوسف شامي”.. ومن السودان النيلي “عبد الرحمن خالد”.. والأنصاري بهي الطلعة، من الجيل الثاني، في الدلنج بعد جبل الأجانق “محمد إبراهيم حامد”.. ونهضت الرأسمالية المحلية من أبناء النوبة والبقارة.. تمددت المشاريع الزراعية (لكرمتي).. ومركزو كوكو.. وفطر جاد الله.. وأبو القاسم يعقوب.. والتوم حامد يحيى.. وعمر آدم من الحمادي، وعلي سليمان من الدبكر.. والمرحومين محمد عبد العزيز الزاكي وعامر عبد العزيز.. هؤلاء من عمروا الأرض ونهضت على أكتافهم السنجكاية والفرشاية، ومعهم من تجار بحر أبيض عطا المنان والد الوزير حافظ عطا المنان.. أصبحت هبيلا موئلاً لقبائل الحمر.. والشنابلة.. ووفد إليها الوافدون من دارفور.. جاء التاما والفور.. وقليل من الزغاوة..بينما أخذت ليبيا ماأخذت من شباب السودان حتى اقفرت بلاد بحالها. واصبحت قرى فى شمال السودان تحمل اسم ليبيا، مما جلب عليها سخط المغنية الكردفانية ، وهى تلعن الهجرة والاغتراب:
إن شاالله ياليبيا
تعقرى،
وتعدمى المال الفقرى !
 فى هذاالوقت ازدهرت هبيلا وازدهت  اصبحت  مصدراًللرزق العميم ،ومصدراً لغذاء أهل السودان رغم مقاومة الحكامات لذهاب الشباب إلى هبيلا والعمل في المشاريع الزراعية مثل قول الشنبلية:
يا القاعدين لهبيلا شغلكم قلة حيلة
حليل ناس حامد، ساروا وجابوا الشيلك
بجمالو
لكن الزراعة نفسها أنجبت أدباً جديداً وأغنيات تمجد أصحاب المشاريع الزراعية الناجحة.. مثل التاجر أحمد عبد القادر حبيبي، الذي تغنت باسمه الفتيات في زمان مضى.. حيث يضربن الدلوكة:
الدقاقة خاشة التقى
والخنفس شايل الندى
أحمد حبيبي الله أدا..
والخنفس، هي موضة تطويل الشعر، وجعله مرسلاً على طريقة مغني فرقة الخنافس الشهيرة.. ورائد السينما “توبي كلير” ولاعب انجلترا “بوبي شارتون” هداف الدوري الانجليزي.. جار الزمان بهبيلا وأهلها.. ودخلها التمرد هذا الصيف وعاث فيها الفساد.. وأرعب العباد.. ونهب الثروات، وقاد التمرد أحد أبناء المنطقة، وهو متمرد، هارب من العدالة بعد أن ارتكب جريمة قتل.. ولكن بعض الذين يشجعون التمرد سراً ممن في قلوبهم مرض، ذهبوا إلى أهله وحرضوهم.. وقالوا إن الحقائق التي كتبت تمثل إشانة سمعة لابنهم المتمرد.. وذهب آخرون لتأويل ما كتبنا عن عناصر الطابور الخامس، ممن كانوا يرشدون التمرد لمتاجر بعينها، وبيوت، معروف ولاء أهلها للمؤتمر الوطني لحرقها وقتل الأطفال والرجال.. نعم سنكتب عن ممارسات التمرد البشعة.. ولن نلتفت لتخرصات الفاشلين والحاقدين، الذين كانوا حتى الأمس القريب يشجعون “عبد العزيز الحلو”، ويحرضون الناس للتصويت له. وبعد ست سنوات أصبحوا كالنساء في الوداعة، بل تنكروا حتى للماضي القريب خوفاً وفزعاً وجبناً، واليوم لا شأن لهم غير الفتن والتحريض على من يكتب جهراً، في إدانة التمرد وتعريته.. التمرد الذي قتل (69) من أهلنا في هبيلا، لن ندعه يعبث بوطننا.. نكشف زيف الفاقد المجتمعي من المجرمين.. والحرامية الذين نهبوا هبيلا.. الأرض التي أصبحت خرابا.. ولكن سنردد مع وردي: “حنبنيهو البنحلم بيهو يوماتي”.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية