تقارير

"بركة ساكن" يتكئ على جراحه في روايته الجديدة (الرجل الخراب)

حديث السبت

يوسف عبد المنان

من (الجنقو) و(كمبو كديس) إلى مأساة المهاجرين للغرب

لماذا تضيق الخرطوم بكتّابها وتدفعهم إلى القاهرة ولندن حانقين عليها
{ اتكأ “عبد العزيز بركة ساكن” الروائي السوداني ذائع الصيت مرة أخرى على جراحه وكتب روايته الصادرة حديثاً جداً عن مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة (المصرية)- (الرجل الخراب)- في سياق نسج سرديات “عبد العزيز بركة ساكن” عن مواطئ جمر المهمشين من خلال مدرسة الواقعية السحرية في السرد.. ومابين كتاب (امرأة من كمبو كديس) التي جسد فيها مأزق الريفيات اللائي شاءت الأقدار وضعهن في قيود بالية من التقاليد الاجتماعية.. ومن ثم كتاب رائع عن معاناة وحياة عمال القصب الموسميين المعروفين باسم (كتكو) و(الجنقو) و(الجنقجورا) .. جرح “عبد العزيز” بتلك الروايات مشاعر الذين يعذبون المعذبين في الأرض وبث ضوءاً كثيفاً شديد الإبهار لحياة طبقات منسية من المجتمع الداخلي في دولة تتقاذفها الأهواء والأنواء وتعصف بها صراعات الهويات التي لا تحظى باعتراف علني من قبل القابضين على قيادتها من النخب التي تعاقبت على السلطة السياسية والثقافية في بلادنا.. ودفعت أسباب ومبررات “عبد العزيز بركة ساكن” الذي كان يتجول ما بين القضارف وكسلا والخرطوم حيث يقيم في الأمسيات ما بين مطعم بابا كوستا بشارع الجمهورية وترقب ما يتسلل ما بين غفلة الرقيب وانتباهته من كتب ممنوعة ومحظورة يأتي بعضها على أيادي المسافرين القادمين من القاهرة وباريس.. دفعته أن يطوف بملابسه المتواضعة حد الإهمال وحقيبته التي يرمي بها وراء ظهره في حله وترحاله يطوف على مكتبات (متوكل الشريف) بشارع الجمهورية ومكتبة (عزة) بشارع الجمهورية يترقب أخباراً يعتقد أنها ستأتي وإن تأخرت كثيراً.. ويضع جنيهات هي عائدات ما يكتب على (القراطيس)!!
خرج الروائي السوداني المسكون بالإبداع والتوجس والخوف إلى بلاد أخرى.. بلاد ترامت وراء بلاد كما يقول “الطيب صالح” إلى (النمسا) أغنى بلدان الاتحاد الأوروبي، التي جاء منها في القرن قبل الماضي مبشرون وعسكر مستعمرون وضباط مخابرات طامعون في أرض النيلين.. وبلاد السودان الغربي.. من النمسا جاء “سلاطين باشا” (نصراني) يتوق لنصرة المسيح بن مريم ثم أسلم على يدي خليفة المهدي (إسلام المضطر) وبعد سقوط المهدية كتب (السيف والنار) تلك المذكرات التي يروج لها أعداء المهدية في كل مكان!! حينما كان “عبد العزيز بركة” في الخرطوم يكتب كما يقول لجمهور عريض من (المنسيين) في الزمان والمكان.. ويكتب عن عمال المزارع في الجزيرة.. لكنه خرج لاجئاً باختياره.. هو مثلما خرج “مصطفى سعيد” ذلك الإنسان الغامض في رواية الراحل “الطيب صالح” موسم الهجرة إلى الشمال.. وإذا كان “بركة ساكن” في الداخل قد استلهم في أعماله القصصية سيرة الشاب الذي تم القبض عليه بالقرب من محطة تفتيش سوبا جنوب الخرطوم بحجة أنه لم يؤد الخدمة الوطنية وتم حمله قهراً للقتال في دارفور وهو لا يعلم الأسباب التي جعلت أهل دارفور يحملون السلاح كما في رواية (مسيح دارفور)، فإن الروائي المرشح لنيل جوائز ستنهال عليه قريباً جداً من منظمات غربية بعدد الحصى، في روايته الجديدة (الرجل الخراب) قد تأثر بالزمان والمكان واستلهم من رائعة الشاعر “تي. أس. إليوت” (الأرض الخراب) عنواناً لروايته الجديدة (الرجل الخراب).. ومن خلال فصول الرواية كيف أصاب الخراب رجلاً جاء نصفه من السودان ونصفه الآخر من مصر، ولكن قبل قراءة ما وراء الرواية وواقعية الروائي “بركة ساكن” في تجسيد صورة الإنسان الأفريقي الذي يركب موج البحر.. ويمتطي مع الخنازير والحيوانات (كونتينات) يشاركها الأكل والشرب وقضاء الحاجة من أجل دخول جنة الله في الأرض الأوروبية.\
لست ناقداً ولا خبيراً بضروب الفن الروائي ومدارسه المتعددة.. ولست خبيراً في مدارس النقد الأدبي وما نكتبه لا ندعي له الحقيقية ولا نجزم بأنه قراءة نقدية في النص بقدر ما هي انطباعات عن ظواهر في النص الأدبي.. وإمساك ببعض جزئيات من كتاب جسد مواقف سياسية.. وحضارية وإنسانية.
{ الأسى في القلب
يأسى المرء كثيراً وعشرات العناوين لكتاب وأدباء سودانيين يحصلون على أرقام إيداع في بلدان غير بلدانهم.. وتصدر عشرات الكتب سنوياً في المنافي القريبة والبعيدة وتتسلل الكتب عبر منافذ شتى.. ومن له صديق مثل “متوكل الشريف” صاحب (دار المتوكل) أو الشاعر “إلياس فتح الرحمن” أو “الشيخ عبد الرحيم مكاوي” لن تعوزه الحيلة في الحصول على مبتغاه مما يصدر من كتب في بلاد الفرنجة والعرب.. لكن لماذا يهاجر الكتاب السودانيون بإبداعهم إلى ما وراء الحدود؟؟ لم يعرف الناس “الطيب صالح” إلا بعد هجرته.. ولم يقرأ أحد لـ”ليلى أبو العلاء” إلا بعد أن جاءت رواياتها مترجمة من أوروبا، لذلك اختار ابن السياسي الاتحادي الشهير “زيادة حمور” أن يكتب روايته (شوق الدراويش) وتصدر من مصر ويحتفي بها المصريون.. وتغضب قطاعات عريضة من السودانيين و”حمور” يمدح الخديوية.. ويطعن في شرف المهدية.. ولا يغضب ولا يثور أنصار هذا الزمان الأغبر!! ولكن “عبد العزيز بركة ساكن” يتناول أحداث وسير المهاجرين في رواية ليست تقليدية عن شخص عربي مسلم قاسى مرارة الجغرافية في وطنه الثاني مصر بعد أن لفظه وطنه الثاني السودان ورمى به إلى أحضان والدته المصرية.. عالم الرواية وفصولها وشخوصها دنيا شديدة الواقعية والصدق.. وفي (الرجل الخراب) نقرأ ما لم نقرأ من قبل في السرد القصصي الذي يتكئ على نظرية عالمية في الأدب اسمها الواقعية السحرية رائدها وحادي ركبها “جبرائيل غارسيا ماركيز” صاحب (مائة عام من العزلة).. وكاتب (قصة الموت المعلن) فإلى إضاءات في فصول الرواية العجيبة!!
{ “حسني درويش” ومأساة واقع
نتداخل في رواية (الرجل الخراب) بطولة الرواية.. هل هي (نورا) الفتاة النمساوية ذات الحسن والجمال التي ولدت لأم نمساوية ووالد هاجر من بلاد العرب الأفارقة إلى النمسا.. أم بطل الرواية هي الفتاة الرواندية من قبيلة التوتسي التي فتكت بها قبيلة الهوتو.. وهاجرت من رواندا إلى القاهرة.. وشاءت الأقدار أن تضعها بين أحضان بدو الصحراء في سيناء ليفعلوا بها ما لا يفعله إلا الأفاعي وحيوانات الغابة بفريستهم.. نالوا من جسدها متعتهم.. وأخيراً انتزعوا كليتها ثمناً لإطلاق سراحها .. وهي تسعى للتسلل خلسة لدولة إسرائيل.. أما بطل الرواية هو “حسني درويش جلال الدين” الذي بدل فيما بعد اسمه إلى “هاينرش” بعد أن خلع أشياء كثيرة كان يتدثر بها.. أم بطل الرواية هي “نورا” التي أحبت شاباً نمساوياً، ويوم أن جاء لبيت والدها كصديق احتفت به الأسرة المكونة من الأم والأب والابنة التي بلغت الثامنة عشرة من العمر وغدت فتاة من حقها قانوناً في أوروبا أن يكون لها صديق أو زوج استطاعت رغم ضعف ثقافتها الإسلامية ومحدودية معرفتها وخواء عقلها إقناع الفتى النمساوي باعتناق الإسلام والدخول في منظومة المسلمين المحافظين.. وفي سبيل ذلك ضحى بعلاقاته الجنسية مع الفتاة “نورا” رغم شكوك والدها “حسني درويش جلال الدين” سابقاً و”هاينرش” لاحقاً في أن الفتى النمساوي “توني” اعتنق الإسلام أو أبدى رغبته في اعتناق الإسلام والزواج من “نورا” بإيعاز من جماعات إسلامية متطرفة تتخذ من الجهاد ضد الكفار متاجر وشركات للتجارة في الأسلحة والدعارة والجنس وكل شيء.. ولكن دعنا نصدق أن بطل الرواية هو “درويش” السوداني المصري الرجل الذي تلاحقه لعنة وصفه بالأجنبي أينما حل ببلد أمه ثم بمحطات هجرته ثم بمستقره في النمسا، بينما يتصاعد صراع الهوية في كل خطوة صراع بين الماضي الضبابي والحاضر المضطرب بين الموروث والمكتسب بين الحلم والرؤيا والكابوس والصورة الذاتية والانعكاسات في عيون الآخرين.
ولد “حسني درويش جلال الدين” في السودان لأب من منطقة التلاقح والتكامل والتصاهر والتعايش والتمازج بين وادي حلفا ووادي أسوان وهي منطقة ليست مثل أبيي التي كان ينظر إليها مثقف مثل “فرانسيس دينق مجوك” بعين الحالم بالأشياء المستحيلة كمنطقة تعايش بين العرب المسيرية والزنوج من دينكا نقوك، ولكن السياسيين هم من (اشعلوا) صراع الهويات والتمايز، بينما كان الحلفاويون في أقاصي الشمال أكثر وعياً مع الصعايدة في أسوان بالمصير الواحد والكيان المشترك.. والمصالح التي يجب أن تسود.. مات والد “حسني” في صباه الباكر، في السنة السادسة بالمرحلة الابتدائية أو الأساس ولم تجد والدته طريقاً غير العودة لوطنها الأول مصر.. وفي سبيل الحصول على مقعد في فصل دراسي نشبت معركة بين الوالدة ومدير المدرسة لم يحسمها إلا شيخ القرية المصرية لأن مدير المدرسة رفض قبول الطالب بذريعة أنه أجنبي ولا يسمح للأجانب بالدراسة في المدارس الأولية.. ولما ولج أبواب الجامعة لم يجد غير العودة للسودان للجلوس لامتحانات الشهادة ودخول الجامعة، حيث تم قبوله ضمن الطلبة السودانيين الذين يحصلون على منح على حساب الحكومة المصرية.. وفي الجامعة اختار “حسني درويش” الانضمام إلى حركة الإخوان المسلمين وأصبح مناهضاً ومعارضاً لحكومة بلاده وهدفاً لهجمات أجهزة أمن الدولة المصرية، ليقبض عليه ويتم إيداعه السجن.. وهناك تحت وطأة التهديد الشديد بالتصفية الجسدية.. وإعاقة نموه كرجل وإنسان.. تخلى عن الارتباط التنظيمي بجماعة الإخوان المسلمين.. ودرس الصيدلة وتخرج كطبيب صيدلاني، لكنه ظل يفكر في الهجرة إلى بلاد أخرى غير بلاد العرب.. وفي إحدى الأمسيات جاءت فكرة الهجرة تمشي على قدميها من خلال زائر المساء الغريب في صيدليته الخاصة.. وكان “حسني” كما يقول الكاتب يحب أن يبتعد عما يسميه منطقة الغليان وسيرة الغليان، بل رائحة أيضاً، فقد بدأ حياة جديدة منذ زمن ليس بالقصير ولا يريد أن ينظر للوراء مرة أخرى إلا بريبة وظنون، فكلمة عربي هنا مرادفة لكلمة مسلم، ويفهم كثير من الأوروبيين أن الكلمتين ترادفان ثلاث كلمات أخرى هي الثراء الفاحش والفقر المدقع والتطرف الأعمى.. خرج من مصر مثل الآلاف من الرجال والنساء يطرقون أبواب الدنيا من أجل تغيير الواقع.. وفي دولة اليونان التي وصل إليها المهاجرون من شتى بلاد العالم تبدأ قصص وحكايات عالم آخر.. عالم خاص.. له أمراض مشتركة.. هي الجنس والخمر.. والبغاء.. وحب المال والطعام.
ويضيء الكاتب بقلمه مناطق مظلمة مثل تجارة البشر وتهريب الآدميين من خلال ثلاثة طرق أسرعها وضع المهاجر في عربات نقل الخنازير كما تم نقل “حسني درويش”.. وكيف تم وضعه في مقطورة تفوح منها روائح روث الخنازير التي يتم تصديرها من اليونان إلى النمسا، وحينما يقترب المفتشون من الشرطة يهربون من رائحة الروث الكريهة وأصوات الخنازير القذرة ولا يعلمون أن هناك إنساناً حشر وسط الحيوانات، بل أصبح هو نفسه حيواناً من أجل الخلاص الذاتي ليصبح إنساناً.. وتطغى غريزة الجنس على “حسني درويش” وهو في تلك (الكونتينة) القذرة ويفصل بينه والفتاة الرواندية التي قدمها إليه شخص إريتري نصاب في حوش لـ(الرقيق) أو (المهجرين) في اليونان لقضاء ليلة مقابل (10) دولارات.. والفتاة الرواندية تكشف خفايا وأسرار عميقة عن كيف تم القبض عليها من قبل البدو السودانيين وكيف تم تسليمها إلى البدو في سيناء.. وكيف تم انتهاك عذريتها.. ومارس معها شيوخ البدو بروائحهم الكريهة الجنس مرات في اليوم، حيث يتناوب عليها في الساعة الواحدة عشرات الرجال.. وهي صابرة من أجل هدف أسمى هو كيف لها الخروج من مأزق وجدت نفسها فيه.
عندما طرق “حسني درويش” أبواب (أثينا) وبات في مأمن من القبض عليه من قبل الشرطة ولن يتم ترحيله قسراً إلى البلاد التي جاء منها.. ينصب الراوي وفي هذه الحالة هل هو “عبد العزيز بركة ساكن” أم “حسني درويش” الذي كان ينتظر أن تحقق معه الشرطة النمساوية عن الأسباب التي دفعته للهجرة والقدوم إلى هنا؟ وفي بيت كبير ينفق عليه المهربون ومافيا تجارة تهريب البشر من أفريقيا لأوروبا، حاول بعض النيجريين المحترفين تلقينه إفادات في الكذب بأن يدعي أنه من جنوب السودان وقد تعرض إلى الاضطهاد الديني والإثني، لذلك هرب إلى هنا طمعاً في الحصول على اللجوء الإنساني، وقال له النيجريون كلما كانت كذبتك كبيرة صدقك الأوروبيون.. وكلما صدقت معهم كذبوك.. ورفض “حسني درويش” أن يكذب.. وآخر سنغالي لقنه كذبة أخرى أنه من المثليين وتم حرمانه من حقه في ممارسة حريته.. وغضب “حسني درويش” على أن يكذب ويلوث تاريخه ومستقبله من أجل حفنة مال لا يغني ولا يسمن!! تمسك “حسني درويش” بأن أسباب هجرته هي سعيه لتحسين وضعه وأصبح “هاينرش” الذي هو “حسني درويش” الصيدلاني الذي يربط عنقه بـ(الكرافتة)، ويقود سيارة الـ(بيجو) في أسوان والقاهرة ويحب حسناء من أسيوط ويمني نفسه بالارتباط بها في المستقبل عمل (مخرياً) للكلاب.. ماذا تعني (مخرّي)؟؟ أن يقود كلاب سيدة نمساوية إلى الحدائق لقضاء حاجتها.. وجمع بقايا (الروث) في أكياس ووضعها في براميل( القمامة) وينال أجراً نظير ذلك غرفة وسرير.. والعجوز التي يعمل في خدمة كلابها أصابتها عاهة أقعدتها.. وابنتها الوحيدة ابتعدت عنها.. وأضحت مشردة في الشوارع تتعاطى كل أنواع الخمور.. وتعيش على ما تجود به مخلفات البقالات الكبيرة من البضائع التي يتم التخلص منها!!
وقبل أن تموت السيدة النمساوية العجوز.. عادت إليها ابنتها بعد جهود مضنية بذلها “درويش” الذي تزوج من تلك الفتاة وحصل على الجنسية النمساوية بموجب ذلك الزواج لينجب ابنته الوحيدة “ميمي” التي أحسن تربيتها ولكن حينما بلغت عمراً تنال فيه الفتاة الأوروبية حريتها ارتبطت بفتى نمساوي هو “توني” الذي أسلم على يديها، لكن “هاينرش” أو “حسني درويش” حينما انصرف عن ابنته وهي تصطحب صديقها إلى غرفتها الخاصة لقضاء ليلة سعيدة.. طاف بذهنه إن كانت ابنته في قرية مصرية قد وجدت تمشي في الشارع العام مع فتى أجنبي وكيف يتم الكشف على الفتاة التي تتهم في أخلاقها.. وكيف تتجمع كبار النسوة للكشف عن براءة أو إدانة الفتاة.. لكنه هنا في أوروبا ينظر ويؤيد ويهيئ لابنته أن تخلو برجل أجنبي ليمارس معها الجنس في ليلة كاملة.. نزولاً عند تقاليد وأعراف وأخلاق مجتمع هو من سعى إليه وحلم بالعيش فيه، وعليه تحمل تبعات خياراته الشخصية.. و”توني” و”حسني درويش” و”نورا”.. شخوص في رواية عميقة، سرد فصولها كاتب عميق جداً ومثقف مثقل بجراحات الأمس وتطلعات الغد.. إنه كتاب يثير احتجاجات وغضب.. وحب درجة القداسة.. وهو كتاب نادر.. لم يصدر من وزارة الثقافة ما يمنع تداوله حتى الآن لأنني على يقين أن وزير الثقافة لم يقرأ حتى اللحظة كتاب (الرجل الخراب).. لكنه سيقرأ الكثير عنه في الأيام القادمات.
{ أضواء باهرة
الفصل الأخير من رواية (الرجل الخراب) لـ”عبد العزيز بركة ساكن” يمثل ذروة الدهشة في استخدام نمط حديث من إضاءة رموز وشخوص الرواية، وما بين البطل المفترض “حسني درويش” وابنته “ميمي” وزوجها أو قل صديقها “توني” و”نورا” يذهب الكاتب بالقارئ إلى عوالم أخرى من السحر الخلاب وحكايات من التاريخ والرؤية العامرة لمقدسات سياسية وعقائدية متوهمة.. فالسيد “توني” زوج ابنة “حسني درويش” نمساوي وافد إلى بلاد قيل إنها وطن “أردولف سلاطين باشا” الذي استخدم “المهدي” (قدوم) وهي آلة تشبه الفأس لطهارته أي بتر الجزء النجس من الذكر كما يقولون.. وما بين إسلام “سلاطين باشا” في قبضة الإمام “المهدي” وهو أسير وما بين إسلام “توني” صديق ابنة “حسني درويش” تبدو المفارقة الكبيرة.. “توني” يكشف في الفصل الأخير من الرواية عن حقيقة أصله وأنه ثمرة زواج والدته اليهودية من والده اليهودي، لكنهم يهود لا يؤمنون بأرض الميعاد ولا هم على عداء مع العرب، وقد أسلم “توني” في أحضان “ميمي” ابنة “حسني درويش” في الليلة الأولى التي أمضاها في حضنها، ودوافع ارتباط النمساوي اليهودي بفتاة من أب نصفه سواني ونصفه الآخر مصري أنه اكتشف أنها امرأة خاصة جداً في سلوكها لا تشبه بقية الفتيات النمساويات، وهو يقول: (ما جذبني لـ”ميمي” الغرابة التي تبدو عليها، أقصد يجعلها مختلفة بدءاً من شكلها الظاهري شعرها المجعد الخشن لونها الأسمر وثقافتها المختلفة نوعياً عن ثقافة الوسط الذي تعيش فيه).
ما كان “حسني درويش” خريج الصيدلية مجرد طبيب اختارت له الظروف أن يعمل (مخرياً) لكلاب سيدة نمساوية فقط، لكنه كان قارئ يترنم في وحدته بآيات مشؤومة لشاعر إنجليزي كبير “تي أس إليوت” وهو يناجي:
هناك رأيت واحداً عرفته فاستوقفته صائحاً سنتسن
يا من كنت معي على السفائن في ما يلي
تلك الجثة التي زرعتها السنة الماضية في حديقتك
هل بدأت تورق؟ أم تراها تزهر هذا العام؟
أم ترى أن الصقيع المباغت قد أقض مضاجعها
أذن فلنطرد بعيداً الكلب صديق البشر
وإلا نبش بأظافره فأخرج الجثة من جديد        
انتهت الرواية بسقوط “درويش” من أعلى قمة جبل وسط هاوية سحيقة وجب عميق، ولن يكون “يوسف” حتى يخرج، وقد دحرجته “ميمي” ابنته انتقاماً من والدها الذي أساء لزوجها في تلك الليلة حينما طارت الخمر بعقله.. إنها رواية مختلفة جداً وتضيء دروب معتمة في حياتنا.. وكيف هي مصائر المهاجرين إلى بلاد الفرنجة.. أخشى أن يحجبها الرقيب الحكومي بدعوى أنها تفيض ببعض الكلمات الجنسية، ولكن أصحاب الروايات والكُتب الممنوعة والمحظورة بأمر السلطة هم أسعد الناس لأنها توزع أضعاف ما توزعه إن لم يكتب عليها وزير الثقافة محظورة وممنوعة، صحيح الوزير لا يمنع بنفسه، ووزيرنا “الطيب حسن بدوي” ينتظر منه الكثير سياسياً وربما يترقى لمراتب أعلى ومهام كبيرة في قادم الأيام، لكن في الثقافة لن يضيف الكثير وهو أكثر مشغولية بفوز “البشير” في الانتخابات القادمة وشديد الإيمان والإخلاص للمؤتمر الوطني وحركته الإسلامية، مما يجعل إهدار الوقت في قراءة كتاب مثل (الرجل الخراب) أثماً سياسياً يحاسبه عليه “غندور” أو كما قال.
      

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية