قبلة القاصي والداني.. بين ألق الحاضر وعبق الماضي
(محطة سبعة) البيت الكبير والأسرة الجامعة
الخرطوم ــــ ميعاد مبارك
محطة الباص التي تحمل الرقم (7) تتوسط ست عشرة محطة تمتد بين حي “امتداد الدرجة الثالثة” وحي “الصحافة”، وهي محطة تجمع لسكان المنطقتين وما جاورها، يومياً عمال و(صنايعية) منذ الصباح الباكر في حضرة شاي اللبن واللقيمات وانتظار المواصلات، وبعد مغيب الشمس يعود الجميع لجلسة السمر بنفس المكان في أجواء تحمل حميمية الأسرة الممتدة، العمال والموظفون ولاعبو كرة القدم والفنانون والطلاب وكافة شرائح المجتمع إلى أن تحولت المحطة (سبعة) بصورة تلقائية إلى ملتقى ثقافي اجتماعي رياضي، بالإضافة إلى الحركة التجارية المستمرة على مدار اليوم. (المجهر) حملت أوراقها إلى تلك المحطة العجيبة وخرجت بالتالي نصه..
قلب نابض وملتقى جامع
بداية جولتنا كانت مع العم “نور الدين سيدنا” صاحب المنزل المواجه لمحطة (سبعة) والذي يعتبر من المخضرمين والحكماء فيها، ابتدر حديثه معنا بعبارات مليئة بحب عميق للمحطة (كانت القلب النابض وملتقى الأصدقاء “العشرة” و”العشش” و”الامتداد” حتى “أم درمان” وحتى بعد قيام أحياء “الصحافة” و”أركويت” أصبحت منطقة وسط تحتضن الجميع منذ عهد الرئيس الأسبق جعفر نميري).
اللاعب السابق بفريق البحيرة لكرة القدم “أزهري عثمان” ابتدر حديثه لنا قائلاً: (جئنا إلى امتداد الدرجة الثالثة في ستينيات القرن الماضي وفي نفس الفترة أسست المحطة، لم تكن أحياء “الصحافة” موجودة آنذاك، من (محطة سبعة) للحزام الأخضر والسكة الحديد مباشرة، وكان لتجمعنا في المحطة طعم خاص بالذات في الأمسيات، حيث نجتمع بالقرب من أكشاك الشاي أو عند عمنا “أب دقن” أشهر فوال في ذلك الزمان، ويا سلام على اللقيمات وعربات الباسطة و(الونسة) و(اللمة) الحلوة، كنا أسرة واحدة تجمعنا حميمية من نوع خاص، نتبادل الأحاديث ونناقش الهموم ونقف على جديد الأخبار، وحتى دعوات الفرح كانت توزع للجميع في هذه المحطة).
مجتمع الكورة
واصل “أزهري”: (أمسيات “7” مثلت متنفساً لفرق وإدارات، أندية وروابط كرة القدم بـ”الامتداد”، “الديم”، “العشرة “و”العشش” وغيرها من المناطق، حيث كانت (لمتها) الطيبة تستقطب القاصي قبل الداني والبعيد قبل القريب)، مضيفاً (حتى أندية الدرجة الثالثة كانت توزع جوابات اللعيبة هنا فالجميع كانوا حضوراً)، وبدأ يسترجع معنا أسماء بعض اللاعبين البارزين من بينهم ( “أولاد أحمد”و”أولاد الجندي” والزعيم المرحوم “محمد عبد الله” بفريق البحيرة “عثمان أبو شامة وإخوانه” بفريق الامتداد، وأولاد “مالك بفريق النيل ونجم الهلال العاصمي الخلوق المرحوم “مبارك محمد خير” الشهير بـ(باكمباور) أسوة بكابتن المنتخب الألماني في تلك الفترة”، والذي احترف فيما بعد في منتخب “الرائد السعودي” وتوفي هناك إثر حادث مروري أليم أثناء عودته من المطار بعد وداعه الفريق الوطني للشباب الذي كان في زيارة للمملكة السعودية حينها)، مضيفاً ومن اللاعبين الكبار من أبناء هذه المنطقة أيضاً هناك نجوم الأهلي الخرطوم “محمود صالح”، “دفع الله جميل” و”ياسر السمين”، كما لا أنسى ترسانة دفاع المريخ “عبده ساتي” والأسطورة “عاطف القوز” اللذان تألقا في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي وغيرهما الكثير ممن شرفوا البلاد في المحافل الدولية وكانوا جزءاً من “المنتخب الوطني” في تلك الفترة). ومن جيل الشباب المتألقين اليوم نجم فريق الهلال العاصمي اللاعب الخلوق “أطهر الطاهر” الذي ضرب مثلاً مشرفاً بأدائه الجميل وأسلوبه المميز ليمثل امتداداً لمن سبقوه.
تحديات ترسانة دفاع المريخ
وكان لنا جميل الحظ أن التقينا ترسانة دفاع المريخ “عاطف القوز” الذي أكد على ما قاله “أزهري”، مضيفاً بأن منطقة محطة (سبعة) حافلة بالذكريات والأحداث، بالإضافة للمة والأخوة الجميلة أولاد الحلة، الكبار والصغار الفطور والعشاء وأكشاك الباسطة والناس كلها بتعرف بعض، ونادراً ما نبقى في المنزل – ساعة ساعتين بالكتير- وباقي الزمن نقضيه في محطة (سبعة)، حيث كانت تبدأ مباريات تحديات “الكورة والبيبسي” في الأمسيات استعداداً للنزال في اليوم التالي بميدان “نادي البحيرة”، ووقتها الزهجان والمبسوط تلاقيهم في المحطة و(الرايحة ذاته) بتلقاها هناك، فقد كانت متنفساً وملتقى “للامتداديين” ومن حولهم).
الأخوان “باولو” و”خريستو”
حدثنا لاعب البحيرة السابق “مبارك أحمد” عن الأخوين اليونانيين “باولو” و”خريستو” حيث كانا جزءاً مهماً من الحركة الرياضية والاجتماعية في محطة (سبعة) كلاعبين وإداريين في فريق “الجزائر”، مؤكداً على العلاقة القوية التي جمعتهما بأهل المنطقة حتى عودتهما إلى وطنهما الأم “اليونان” بعد أن عاشا طفولتهما وشبابهما فيها. يقول مبارك (ما زال حبل الود موصولاً بيننا وبينهما بل وصارت هذه العائلة الجميلة تتمسك بأي زائر لليونان تشم فيه رائحة وطنهما الثاني السودان بل وتصر على استضافتهما وإكرامهما على الطريقة السودانية اليونانية).
أهل الوتر
لم تكن محطة (سبعة) مكاناً لتجمع مشاهير الرياضة وحدهم بل كانت أيضاً تجمعاً لأهل الفن، حدثنا عن ذلك “طارق أحمد” قائلاً: (كانت أمسيات المحطة الجميلة تتزين بنجوم جميلين بدأوا من هنا أمثال الفنان “عبد الرازق الكنزي” صاحب الصوت الجميل الذي تشهد له قدرته العالية على عزف جميع الآلات الموسيقية بإتقان وتفرد والمبدع “مبارك عبد اللطيف” الشهير بـ”مبارك سبعة” الذي كانت له صولات وجولات وهو الآن يعاني من المرض ندعو الله أن يمن عليه بنعمة الشفاء). وهناك بعض الفنانين الشباب أمثال “أحمد الصادق” و”نعومة” يترددان على المحطة من حين لآخر بحكم الصداقة التي تربطهما بشباب المنطقة، بالإضافة إلى الأجواء الاجتماعية الجميلة التي تحف المكان بحميمية خاصة.
لمة شباب
يقول “إسلام محمد الحسن” أحد شباب المحطة (نحن هنا امتداد لأسرنا، نجتمع بحكم العادة فقد سبقنا كبارنا إلى ذلك، بالإضافة إلى أن المحطة تستقطب الجميع حتى من خارج الحي، فتجد المطاعم وستات الشاي ومقاهي الإنترنت والصيدليات وغيرها من المحال التجارية، كما أنها سوق بيع وصيانة ركشات، محطة مواصلات ومركز للحرفيين والعمال بكافة التخصصات).
شجرة حجة النعمة
شجرة ظليلة تقبع أمام منزل “حاجة النعمة” يحرص أهل المنطقة على الاجتماع تحتها كل (جمعة) لتناول وجبة الإفطار وتبادل الأخبار والتفاكر في مشاكلهم وتدبير أمورهم، فمنها ينطلق “النفير” في أجواء اجتماعية جميلة، وأكثر ما يؤرق “أهل الشجرة” هذه الأيام هو الحفاظ على ميدان كرة القدم الذي يمثل تاريخ وحاضر المكان ومتنفس الصغار والكبار، مناشدين الدولة أن تحفظ لهم حقهم في الميدان.
مجتمع واعٍ بالفطرة
أشرف “أبو الشوش” كما يحب أصدقاؤه مناداته من أصحاب “متلازمة داون” تستغرب وتتعجب بطلاقته في الحديث واجتماعياته العالية، تجده في أغلب الأحيان جالساً في المحطة يتجاذب أطراف الحديث مع من حوله يرحب بـ(الغاشي والماشي) بحب كبير تلمح في عينيه ثقة كبيرة واعتداداً واضحاً بالنفس، روحه الخفيفة وأحاديثه المرحة تعبق المكان بالضحك والقفشات، هو من عشاق فريق المريخ يهوى “العجب” وتربطه صداقة قوية بلاعب المريخ السابق “عاطف القوز”. “أشرف” عنصر فعال في أفراح وأتراح المنطقة تجده سباقاً في الواجب والأصول، رغم إصابته بمتلازمة “داون”، إلا أنه يتعامل مع الهاتف الذكي بصورة ممتازة، لا يعاني أية مشاكل في إغلاق وفتح الأشياء ولديه حضور واضح ولافت، مما يعكس الوعي الفطري لأهل المنطقة الذين تعاملوا مع حالته بإدراك وحب سوداني أصيل سبقوا به أهل التخصص مما ساعد على دمجه في المجتمع ورفع سقف قدراته إلى حد بعيد جعله يسبق أقرانه بخطوات كبيرة.
قصة كفاح
ما أن نبدأ الحديث مع المستطلعين عن محطة (سبعة) حتى تقفز قصة كفاح المرحومة “الحاجة بت المنى” التي تحمل لها المنطقة وأهلها سيرة معطرة بالمسك، حيث ترملت في سن صغيرة جداً فجعلت من مأساتها ووجعها دافعاً وقوة ربت أبناءها بعرق جبينها، علمتهم وأدبتهم حتى صاروا مضرب مثل في كل شيء، كانت تخرج كل صباح مع صيحة الديك مع ابنها المهندم “أحمد” تبيع أحلى لقيمات (زلابية) في محطة (سبعة) ثم تعود إلى المنزل لتحضر أبناءها وتهيئهم ليومهم الدراسي بما فيهم “أحمد”، انتقلت حاجة “بت المنى” إلى الرفيق الأعلى قبل عدة سنوات تاركة خلفها سيرة من ذهب وأبناء تبوأوا أعلى المناصب وأصبحوا أطباء ومهندسين يشار لهم بالبنان. هذه هي (سبعة) المحطة الجامعة للأصيلين والنبلاء من كل القبائل السودانية قبلة القاصي والداني و(سبعة) الكفر والوتر.