أخبار

"الأنصاري" الوسيم

تضج صباحات القرى المتناثرة في الرمال الذهبية بأحاديث الأمس لقادة المنطقة ورموز عزتها.. ومن يقررون باختياراتهم مستقبلها.. السماء صافية كزرقة البحر والصيف يرسل أشعة شمس أبريل لتشوي الأجساد التي أنهكتها مجاعة ضربت السودان قبل عام فقط.
ومعها رحل الجنرال “نميري” عن سدة الحكم ولاذ بالقاهرة منفياً عن الوطن بعد أن ملك الوطن لستة عشر عاماً من الزمان.. كان القائد والرمز والمفكر والمنقذ و(الجاب) الموية (للعطشان) وأطعم باللقمة الحاري والجيعان.. عادت الديمقراطية ورفرفت رايات الأنصار في كل متجر وطاحونة.. وملأت شعارات حزب البعث الأرض.. وخرجت الجبهة الإسلامية من ظاهر الأرض لتقول كلمتها في ليالٍ صاخبة.. وعرس السودان أغنية يرددها أطفال المدارس حتى في التخوم البعيدة.
ويصبح السيد “الصادق المهدي” أمل الأمة.. تتعلق آمال الشعب برجل واحد.. وحزب نفض عن ذؤابتيه الغبار.. واغتسل من مشاركته في مايو كما يغسل الميت قبل مواراة جسده الثرى.. لم تغشَ بلادنا حتى ذلك الحين عصبية القبيلة.. وعنصرية بغيضة لم تعرف جبال النوبة حينذاك أنها على حافة الدخول إلى الجحيم، وحقبة صراع تمدد واستعصى على الطبيب والمداوي وصف أسباب المرض.
في دائرة الدلنج الشمالية انعقدت الإمارة والقيادة لأحد أبناء النوبة “حبيب سرنوب الضو” مرشحاً لمنطقة يشكل النوبة أقل من (20%) من سكانها.. ونعني الدبيبات والحاجز والسنجكاية والفرشاية.. ومناقو.. وشق الفروت.. كان قادة المنطقة وكبارها “إبراهيم حامد الأنصاري” وسيم الطلعة بهي الوجه.. نظيف الثياب.. و”حسن عبد القادر” المتفق على حسن خلقه وبياض سيرته.. وعفة لسانه وطهر قلبه.. و”حامدين النيل” الذي يكنى بالنمر الضالع و”فطر جاد الله” الذي أنجب المدافع الصلد.. “مصباح فطر” لاعب الفريق القومي.. ولاعب هلال الأبيض في عصره الذهبي.. وكانت نجوم دائرة الدلنج الشمالية الأنصاري المخلص.. والدنقلاوي الوفي “محمد إبراهيم حماد”.. وكان شيخ دار شلنقو وحكيمها “دراس أبوهم” .. وكانت الدبيبات صافية تضج بالحياة والحيوية، الراحل “أبو زيد عبد القادر” بواقعية الشباب.. والراحل “حامد داؤود الأنصاري” مات على عهده مع الإمام “الهادي”.. ولا صوت يعلو فوق صوت “الصادق”.. وكانت الجبهة الإسلامية ضعيفة يحمل رايتها مجموعة صغيرة جداً من المثقفين وأساتذة المدارس الأولية.. الأستاذ “مختار حسن”.. و”محي الدين التوم” الطالب بالجامعة.. والمخلص الوفي حتى اليوم “فتح الرحمن يوسف” و”أحمد علي سبيل” و”الفاتح النعيم”.. ولم يحصد مرشح الجبهة الإسلامية “عابدين موسى” إلا بضعة أصوات لا تسمن ولا تغني من جوع.. وقدم الحزب القومي مرشحه “أمين بشير فلين” ضابط جهاز الأمن المتقاعد في دائرة سلارا الفتل وحجر سلطان ونصف مدينة الدلنج.. ولم يجد مقاومة من أي حزب. فاز “أمين بشير فلين” مرشح الحزب القومي السوداني.. بينما النوبة داخل مدينة الدلنج رفضوا التصويت لابنهم “حبيب سرنوب الضو” وخرجت أغنيات للدلوكة في ذلك الزمان تقول (“حبيب سرنوب” النوبة أبوك والعرب حبوك).
حيث صوت عرب الحوازمة بإجماع لم يتحقق منذ ذلك الحين وحتى اليوم لصالح “حبيب سرنوب”، لأن في حملته السياسية رجالاً مثل “إبراهيم حامد الأنصاري” الذي خرج من كردفان مبايعاً للإمام “الهادي” في الجزيرة أبا بيعة الموت، وكان وكيلاً للإمام “عبد الرحمن” في نجوع كردفان.. رجل طويل القامة.. تميل بشرته إلى البياض.. عريض المنكبين يشبه سكان الجزيرة العرب.. لأن “إبراهيم حامد” احتفظ بسلالة كنانة الأصلية كعرب أكثر نقاءً من عرب البحر والشمال الذين تزاوجوا مع المحس والسكوت والحلفاويين.. وكنانة أفخاذ عديدة.. تناثرت بين سنار والنيل الأبيض وشرق كردفان في أبو جبيهة.. والدبيبات.. لا يملك “إبراهيم حامد” ثروة مالية كبيرة.. ولكنه كان منفقاً على أوجه الخير.. والبر.. وشقيقه “علي حامد” الشهير (بالصاج) يتولى إدارة شؤون المال.. بينما وهب الشيخ “إبراهيم” نفسه ووقته وجهده لإصلاح البين للمتخاصمين.. يخرج في الصباح الباكر من منزله.. رجل فارع الطول نظيف الثياب يتوكأ على عصاه.. لإلقاء تحية الصباح للشيخ الوقور.. الكريم “داود يحيى” تحت ظلال شجرة كبيرة بالقرب من طاحونة الجمعية التعاونية.. يلاطف التاجر الثري “الأسباط تميم الدار” ويحتسيان شاي الصباح.. ثم يطوف على متجر “الشريف عبد الرحمن” ولا ينسى إلقاء التحية للعجلاتي الشهير “علوبة”. وفي دكان “حسن عبد القادر” يلتقي الناس من كل صوب وفج عميق.. هناك يتم التخطيط للحملة الانتخابية والتبرع للمحتاجين.. وتبادل الأخبار عن أحوال القرى.. الموتى.. المرضى.. والقادمين من السفر.. والكبير يحنو على الصغير.. والصغير يحترم الكبير.. كان “إبراهيم حامد” هو رئيس مجلس الآباء لمدرسة البنين.. ومعه تجار المدينة ورموزها الاجتماعية.
حملت وحدة القيادات أهل تلك المنطقة للتوحد.. والتصويت لمن اختارته القيادات الكبيرة.. بلا تعصب ولا عنصرية.. حيث سقط مرشح من الحوازمة في ديار الحوازمة وفاز “بناوي”.. سقط “يعقوب الفضيل”.. وفاز “سرنوب الضو” لأن أمثال الأنصاري الوسيم النظيف “الشريف إبراهيم حامد” لا يرفض له طلب.. كانت عربة “حسن عبد القادر” (اللاندروفر) الذي يقوده بنفسه أحياناً ويقوده “صلاح البدوي” أحياناً أخرى، قد شكل جسر تواصل.. بين القرى والفرقان.. ولكن خيبة المنطقة في “سرنوب” كانت كبيرة.. وفي حزب “سرنوب” كانت أكبر.. أصبح وزيراً للطاقة والتعدين.. ولم يفلح في إضاءة قرية واحدة مثلما فعل د.”عيسى بشري محمد” الذي أضاء كل قرى المنطقة بالطاقة الشمسية وبنى المدارس.. وعمر المساجد.. وكما أضاء اليوم “آدم الفكي” الدبيبات والقرى المتناثرة على الرمال بكهرباء سد مروي.. رحل عن دنيانا قبل سنوات الشيخ “إبراهيم حامد” ولكنه ظل باقياً في نفوسنا بسماحته وأخلاقه وقيمه.. رحل “إبراهيم حامد” وفي موسم الانتخابات نجتر ذكريات الأمس القريب والبعيد، وقد تبدلت أشياء وتغيرت ملامح وأصبحنا نردد.
مديت على الأمل القريب أشواق كثيرة وقصرت
لا بتعرف الزول البجيك ولا البجيك بيعرفك.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية