التراجع والمراجعة
قديماً كان “جعفر نميري” إذا غشيته صحوة ضمير وسعى لمراجعة موقف خاطئ أو قرار وجد الرفض قال عبارته الشهيرة (الثورة تراجع لا تتراجع) والثورة هنا في موقف الصامد الكبير الذي لا يغشاه الوهن ولا تمسه نوائب الدهر.. ولكن الأيام دول، فقد أصبحت مايو ذكرى طيبة للبعض وسيئة لآخرين.. والمراجعة والتراجع بينهما اختلاف مفاهيمي ولفظي وحالة السودان الراهنة تشهد تراجعاً في كل شيء.. وعند البعض مراجعة في كل شيء..
تراجعت هذه الأيام أسعار الذرة والكركدي والفول والسمسم وحب البطيخ والطماطم والبصل، وقل الطلب على صادراتنا الزراعية.. بعد أن أصبحت لوزارة الدفاع مزارع للعنب والبرتقال، ولوزارة الداخلية نصيب في إنتاج الكتاكيت والفراخ.. ولوزارة الزراعة حق المراقبة والمتابعة.. ولا تملك مشتلاً ولا مزرعة تجريبية.. وتنازلت عن مهامها لغيرها وأصبحت وزارة الثروة الحيوانية مراقباً لمزارع تحسين الأغنام والماعز الذي تقوم به جهات أخرى في الدولة. ربما اهتمت قريباً وزارة الخارجية بإنتاج البصل وتجارة الفحم وتوفير الغاز.. وقديماً قبل أن تموت الخطوط البحرية أنشأت في عهد مديرها “شرف الدين مختار” وكالة للسفر عبر الطيران أي تركت البحر وركبت الفضاء.
تراجعت كرة القدم السودانية وباتت الأفراح تتناثر في شوارع الخرطوم بعد فوز فرقنا على أندية من زنزبار وتنزانيا وجزر القمر.. وانحدرت الأخلاق الرياضية.. وأصبحت الصحافة مصدراً لبث الكراهية وعبادة الأشخاص على حساب الكيانات الرياضية وتحزبت الأقلام وتحزمت للدفاع عن رؤساء الأندية وتخلت عن مهمتها في النقد الرياضي الذي أصبح مادة تدرس في الجامعات السودانية.. ولكن يقوم بتدريس النقد الرياضي في جامعة وزير الصحة “مأمون حميدة” الزميل الأستاذ “عبد الباقي الظافر” الذي لا يميز بين هلال أبو قوتة ومريخ أم روابة.
تراجع الخطاب السياسي في بلادنا بعد بلاغة “المحجوب” ورصانة “الأزهري”.. وفصاحة الشريف “زين العابدين الهندي”.. ولغة “الترابي” التراثية المعتقة أصبحنا نتحدث بلغة العميل.. وبغاث الطير.. ولحس الكوع وشم الأباط.. وإلى آخر المفردات التي يأتي بها ساستنا وقادتنا من الأحزاب الحاكمة والمعارضة.. وتمددت الخصومات حتى داخل الحزب الواحد وسادت الوشايات، وقد أفصح د. “نافع علي نافع” عن (نمامين) و(قطاعين) سعوا للوقيعة بينه ورئيس الحزب ونائبه.. وما بين الاتحاديين غير الديمقراطيين ما صنع الحداد من الخلافات والصراعات ما بين تيار يسعى لخوض الانتخابات وتيار مقاطع لها..
تراجعت الحريات الصحافية.. وقال “محجوب محمد صالح” إن الصحافة السودانية تشهد أسوأ عهداً لها منذ (40) عاماً، وتراجع مع الصحافة النقد الأدبي والجدل الفكري وتراجع الشعر وجفت المنابر وأصبحت وزارة الداخلية هي الجهة التي تصادق على قيام الليالي الشعرية أو إلغائها.. وهجر المسرحيون الحوش الثالث القريب من الحوش الأول الإذاعة والحوش الثاني التلفزيون، وآخر المسرحيات التي عُرضت على المسرح الذي جف وهجره الجمهور كانت باسم (سكينة جاتكم)!!
كثرت المستشفيات وزاد عدد المرضى.. تضاعف عدد المدارس عشرات المرات.. ولكن تدنى مستوى التحصيل، وأصبح في كل محلية جامعة أو كلية ولكن في كل بيت عاطل من العمل، وزاد عدد صرافات النقد الأجنبي وأصبح الدولار الواحد بتسعة جنيهات.. تمددت شوارع الأسفلت من الفاشر حتى الخرطوم ولكن تضاعفت أسعار النقل وكثرت شركات الطيران.. وتمادت الطائرات في السقوط.. وقل عدد المواليد وزادت نسبة الوفيات.. وأصبح ديوان الزكاة ثرياً والفقراء فقراء.. وأصبحنا نغني للطيور .. ولا نتعظ من زيارة القبور.. وفي كل محلية نيابة وقاضٍ.. ولكن الظلم قد تفشى وعم البدو والحضر.