الديوان

"عوض جبريل".. شاعر خرج من بيئة مشبعة بالفوضى المبدعة

سابنا في عز الجمر
بروفايل – آيات مبارك
إن ما يجمع الشاعر “عوض جبريل” وأدب الحكواتية الجوالة هو بالطبع ليس فنون الشعر القصَصَي أو السرديّ، وإنما الحكواتيّون الذين اختصوا بالشعر الغنائيّ، الذي يعبّر عن المشاعر بالإضافة مثل: (سيرانييا) أو (الأغاني الشعبيّة الريفية)، والشعراء الجوالة لا يعبئون بأي حالٍ وضفاف تلقي بهم الحياة.. فملامحهم وحدها تعكس لنا متعة الحياة وانتفاضتها.. وتصف لنا بجلاء عمق الحرف الذي خرج من بيئتهم المشبعة بالفوضى المبدعة
والمتجه شمالاً إلى (الهجرة أم درمان) في (حي الدباغة) يجد نفسه منزلقاً وكأنه داخل إلى بطن حوت يراها بلونٍ أصفر قاني، وحتماً سيجد نفسه منساقاً إلى أزقة تلك المدينة بإشارات مغنطيسية ليحتمي بأغنيات “عوض جبريل” المولود في العام 1932م والذي درس بمدرسة (أبو روف القديمة الأولية) ومنها إلى (المعهد الفني) ومنها مباشرة تعلم بقية علومه بـ(منتدى أبو روف الثقافي)، فترنم بأغنيات الفنان “عثمان حسين” لكن نفس المبدع التواقة لا تكل فانتحى جانباً ليلوح في دنياوات المسرح مع الممثل القدير “عثمان حميدة  “تور الجر” ومثَّل معه في مسرحية (دامفيقا)، فكان شاعراً ومغنياً وملحناً وممثلاً إلى أن اكتشفه الشاعر “عبد الحميد أب شنب” وتدرج معه في بعض المدارج الشعرية.
ولما كان (حي العرب) هو قيثارة الفن آنذاك حيث (سوق العيش) والملمات الشعرية من (دوبيت) وخلافه، ارتحل شاعرنا “جبريل” إلى هناك وتتلمذ على يد الشاعر “عبد الرحمن الريح” لمدة خمس سنوات، اتخذ “جبريل” وصديقه “الفاتح حاج سعد” من (مرقة الفجرية) من أجل (البناء) بالطين الأخضر حرفة تجعله يغازل بكل عذرية حسناوات ذاك الحي وهن يختلسن النظر من حينٍ لآخر.. لتخرج كلمات الأغنيات منسابة ليلاً في أمسيات ذاك الحي.
لي حبيب شاغل بالي
في ثنائية واضحة جمعت بين “عوض جبريل” و”فاطمة الحاج” أتت باكورة إنتاجه في أغنية «لي حبيب شاغل بالي دائماً محطم آمالي.. لي حبيب محروم منو لي زمن بسأل عنو»، أما أول تسجيل له بالإذاعة في العام 1949م فكانت أغنية (ورد الغرام) وهي من كلماته وألحانه سُجلت سنة 1949م.
صدوني حراسك
(السمحة يا دهب الخزاين .. اتهموني بيك وأنا قالوا خاين.. أنا ما سرقتا بس جيت أعاين) ما جمع بين شاعرنا هذا و”عوض جبريل” أن إحدى (حسناوات الخدور) آنذاك كانت خاضعة لقوانين اجتماعية لذلك استطاعت جمع أشتات أحرفه في أغنية «كل ما سألت عليك صدوني حراسك.. ردوا الجواب قاسي مع إني من ناسك».
وفي (حي العرب) كان لابد أن يلتقي بالفنان الحزين “أحمد الجابري” ليشكلا ثنائية أخرى فأتت (الشغل بالي أنا بريدو كل أفكاري)، (شغلني ما انشغل قلبو)، (أسمر يا أسمر يا سكر) و(حبيبتي بستلطفا ما داير زول يعرفها) والتي كانت (حبيبتي بت مصطفى) لكنها تحولت إلى “بستطلفا)، ألم نقل إن “جبريل” كان وفياً ومنساقاً خلف عصى الحب؟؟
خلاص يا عيوني ما تبكي
كانت هناك ثمة علاقة بين الفنان “كمال ترباس” و”عوض جبريل” والتي تجلت في أشهر أغنياته مثل (ما تهتموا للأيام ظروف بتعدي طبيعة الدنيا زي الموج تشيل وتودي) و(بقليبك تقولي تعال وتعال) و(خلاص ما تبكي يا عيوني) و(تسيبني في عز الجمر وأنت من حولي بتمر).. وكثيراً ما استعصت عليه تقلبات الحياة فاستعطف الدنيا قائلاً: (حني علي يا ستي الحاصل بي سببه انتي). وعندما أعيته فنون مزالقها ونكباتها واشتد عليه حصار السيول والأمطار أنشد لزوجته في يقين منقطع النظير (ما تهتمي للأيام ظروف بتعدي.. طبيعة الدنيا زي الموج تجيب وتودي.. مصيرو الزول حياتو يا ما فيها يشوف) لتصبح أيقونة النكبات ومصدر ترويح لكل ذي خطب جلل، وكان هذا حاله في بيته يداوي أمراض الزمان بكلمة، ففي أحد الأعياد كتب مخاطباً زوجته (ما تسيبني في عز الجمر وأنت من حولي بتمر.. وأنت عارف انو جيبي فات حد الصبر) لتتحول بعدها إلى (حبي فات حد الصبر)، وأيضاً غنى لها «لو تعاين ليها تملأ ود عينك». أما الفنان “محمد أحمد عوض” فأعطاه رائعته “مع السلامة يسعدني إنك تذكريني وعني دائماً تسألي)، (الليلة وين يا عيني سهر الليل والنوم أبى لي) لـ”خلف الله حمد”، و”عبد الله محمد” (الحنين البي ليه ما قدرو العمر من وين بشتروهو)، “تيمان عطبرة” «تقوم بينا العربية تودينا للسادة»، “عبد الوهاب الصادق” (صرف النظر عني)  وللفنان “محمود عبد العزيز” (سبب الريد).
من دلالو ولا مالو
وفي أحد شوارع (حي العمدة) لفت نظره ثوب جميل فكتب متسائلاً: (شفت التوب وما لاقاني أجمل منو.. دا حالتو التوب سيد التوب يكون كيفنو؟؟ ولأغنياته مع “أبو عركي البخيت” قصة تلك الحسناء التي أشاحت بوجهها ولم ترد التحية لأنه كان بملابس العمل المتسخة، فكتب واضعاً لها العذر (الجميل السادة وضاح المحيا، التفت يوم شفته، ما قبلان تحية.. من دلالو ولا مالو) و(شفت التوب وما لاقاني أجمل منو).
يوم الرحيل
حلقت روح الشاعر “عوض جبريل” في أبريل من العام 2003م وخلفها حكايات وأقاصيص جميلة وعلى شفتيه بعض أحرف تقول:
ضيء الكلام على شفتيك
بقنديل شوق
تزود من زيت حب عفيف
وصمتك مثل دموع الثكالى
بأولادهن وأحلامهن

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية