المجهر في حوار المراجعات مع البروفسير حسن مكي (1 – 2)
الحركة الإسلامية رفعت شعارات وطرحت أشواقا ولم تؤسس لمشروع إسلامي
الإسلاميون فشلوا في المنهج والتطبيق وإنتاج الجمهوريين في الثقافة الإسلامية أكبر من إنتاج الإسلاميين
الحركة الإسلامية نبتت في رحم الفكر الغربي وليس في المعاهد الدينية
تأثرنا بالأفكار الحديثة .. والحركة الإسلامية كفّنت في يوم عرسها
حوار. فاطمة مبارك ـ عقيل أحمد ناعم
{هل هناك مشروع إسلامي للحكم أم هناك اجتهادات تبلورت ولم تصل مرحلة القابلية للتطبيق؟
-أولاً دعونا نسأل هل هناك فهم متجانس على مستوى القضايا الاجتماعية دعك من قضايا الاقتصاد والسياسة، هل المجتمع السوداني على وفاق في الأمور الاجتماعية؟ نسبياً يمكن أن نقول على وفاق، لكن داخل كل عقل وكيان هناك فهم خاص للثقافة الإسلامية، فمثلاً الختمي الذي جاء من المناطق الشمالية يعتقد أن الميرغني (قوس كبير) وتاريخياً هم على خط انفصال مع طائفة الأنصار التي تعتقد أن من لا يؤمن بمهدية “المهدي” فهو على أحسن الفروض ليس من الحسنين إذا لم نعكس ذلك، وإذا قلنا إن أكبر طريقة صوفية موجودة في السودان هي الطريقة السمانية وأتباعها لا يقلون عن (70%) وأتباع الشيخ “البرعي” أيضاً لهم رؤية مختلفة للثقافة الإسلامية، والطريقة القادرية لها تشعبات، والطريقة التجانية التي يمثلها الشيخ “أحمد التجاني” يمثلون نسبة مقدرة من السودانيين، هذه الخريطة الروحية منبوذة من الإسلام الجديد الذي يمثله دعاة التوحيد، ويعتقدون أن قراءتهم هي الوحيدة والنافذة، ومن خلالها يحكمون على هذه المجموعات بشيء من الشركيات.
{ هل كان الأمر محصوراً في الحركة الإسلامية أم كان هناك مدارس أخرى؟
-هناك مدارس أخرى فالمدرسة الجمهورية لها كذلك قراءتها للثقافة الإسلامية، وهناك مدارس اتجه بعضها إلى الوجودية وبعضها اتجه إلى الشيوعية، إذن المجتمع الإسلامي نفسه ليس له قالب تدين واحد، إنما هناك قوالب مختلفة، وإذا قلنا إن الوعي الجمعي الديني له عدة قوالب، فإن المجموعة التي تهتم بتدين الدولة هي أقلية الأقلية؛ لذلك هذه الأقلية عندما بدأت تطرح ابتداءً من الخمسينيات الدستور الإسلامي كان هناك سؤال عن ماهية الدستور الإسلامي.
{ بمعنى أنه لم يكن الدستور موجود في الموروث الإسلامي؟
-كلمة دستور ليست موجودة في الحديث، وبحسب أنصار السنة كلمة بدعية لذلك الرئيس الأسبق “نميري” قلب الطاولة على هؤلاء عندما طبق الشريعة الإسلامية، وتجاوز مسألة ما يسمى بالدستور الإسلامي؛ لأن فكرة تدين الحياة السياسية والاقتراع بالأوراق فكرة غربية لا وجود لها في الثقافة الإسلامية، إذن لا يمكن أن نقول هناك مشروع إسلامي أو تأسيس لمشروع، وإنما هناك شعارات وأمنيات وأشواق.
{إذن ما هو المشروع الذي تبنته الحركة الإسلامية وعلى أساسه بادرت لتتسلم السلطة؟
-الحركة الإسلامية كانت متأثرة بالأفكار الحديثة أكثر من تأثرها بفهم عميق لمطلوبات التدين بمعنى أن فكرة الديمقراطية والشورى وتنظيم العمل السري لم تأخذ من الثقافة الإسلامية، وإنما أخذت من الشيوعيين بعد أن استفز الإسلاميين وجود الشيوعيين في الساحة، ولم يكن هناك إنتاج عميق منذ 1946 أو 1948 إلى مجيء “حسن الترابي” في 1965، أو دراسة إسلامية واحدة غير الدستور الذي وضعه الأخوان المسلمين وبعض الوريقات هنا وهناك، بل إن ما أنتجه الجمهوريون في الثقافة الإسلامية كان أكبر من إنتاج دعاة الحركة الإسلامية، وعندما تم حلها بمجيء الإنقاذ لم يكن لها بواكي، وحتى الذين بكوا عليها وطالبوا بإعادتها عندما عادت في إطار الدولة عادت بقيادات لم تبكِ عليها أصلاً أو تتذكرها والذين كتبوا وقالوا أين الحركة الإسلامية ولماذا حُلت؟ لم يتنبه إليهم أحد.
{ما السبب في عدم فاعلية الحركة الإسلامية الموجودة الآن في الساحة؟
-لأنها أصبحت حركة موظفة في ركاب السلطة؛ لذلك إذا كان هناك مشروع إسلامي قائم على قراءة إسلامية عميقة لكفانا شر الانقلاب على الحكم الفيدرالي ممثلاً في تعيين الولاة بدلاً عن انتخابهم، وتراجع مسألة الحريات وتركيز السلطات عند رئيس الدولة.
{ من المسؤول عن حل الحركة الإسلامية ؟
-هذا مشروع “الترابي” وأنا كنت ضد هذه المسألة، واعترضت على هذه الفكرة، وأذكر أن المرحوم “الكاروري” كان يشير لي بأن أقبل، وأذكر أنني قلت لهم لماذا تحلون الحركة الإسلامية في يوم عرسها ويوم وصلت السلطة، تريدون أن تقولوا أصبحت سرية وهي كانت علنية، وهذا الأمر كان مدهشاً وقبل ذلك كانوا لما يخبرون شخصاً من أعضاء مجلس الشورى بأن الانقلاب تابع للحركة الإسلامية، كانوا يحلفونه القسم أقسم بالله ما شهدنا مالك أهله وإنا لصادقون (مالك أهله هو مالك التنظيم). فالحركة الإسلامية في يوم عرسها (كُفنت) وقالوا لها أنت أصبحتِ سرية، وبعد ذلك قالوا لها مهمتك انتهت، نحن عملنا حاجة كبيرة لنستوعب فيها الانقلابيين الجدد، لأن الوعاء القديم لا يستوعب لكن إبقاءه كان مهماً، مش تحكم عليه بالإعدام وتأتي بوعاء جديد تشكله من رؤساء القبائل والطوائف الدينية، فهذه كانت لعبة سياسية.
{ بعض الإسلاميون برَّأوا “الترابي” من مسؤولية حل الحركة الإسلامية ؟
– هؤلاء ليس لديهم علم، نحن كنا جزءاً من أعضاء مجلس الشورى وقاومنا هذه الفكرة .
{ بالعودة لحديثك عن عدم وجود إنتاج فكري عميق للحركة إلى حين بروز “الترابي “، ما الإضافة الفكرية التي أنتجها “الترابي”؟
– أهم إضافات “الترابي” كانت كتابه (فقه المرأة بين تعاليم الدين وتقاليد المجتمع) الذي قال فيه إن المجتمع مجتمع مشاركة وليس عزلة، والنساء شقائق الرجال، والمرأة يمكن أن تخوض الانتخابات وتدخل البرلمان، وهذا فقه حركي أكثر منه تقعيد وتأصيل.
{لكن كان فيه تأصيل لقضايا المرأة، أليس كذلك؟
-صحيح الرسالة كان فيها تقعيد وتأصيل، لكن آخر كتابات “الترابي” (الأحكام السلطانية) ليس فيها تقعيد وتأصيل بمعنى أنه لم يكن فيها قواعد هامشية، هي اجتهادات مطلقة، وكتابات “الترابي” غير مقروءة لأنها مكتوبة بلغة صعبة على الناس مثل المرافعات القانونية، حديثه المسموع هو المتداول و”الترابي” كان لديه حاجز مع الصفوة، اليساريون كانون يحملونه أخطاء مايو من قطع الأيدي والتعجل في تنزيل الحدود في مجتمع كانت نسبة التدين تتراوح بين (30 – 35%) تقريباً، والأحزاب التي قامت على أساس طائفي شعرت بأنه يريد أن يجتثها كما اجتهد في إيجاد توليفة بين السلفيين والصوفية، لكن هؤلاء ليس على نفس واحد، وهذا يعكس أن المشروع الإسلامي السوداني كان مشروعاً هشاً قائماً على جمع هذه الكيانات في عباءة واحدة سواءً القائمة على السلفية والرؤية الدينية الحرفية أو المجموعات القائمة على الرؤية الدينية العرفانية الباطنية، لذلك ليس هناك معايير يقوم عليها المشروع الإسلامي.. وهذا أفرز إشكالات كبيرة لأنهم كانوا يعتقدون الإسلاميين أصدق الناس وأكثر الناس أمناً..
{ هل هذا يعني أن الحركة الإسلامية لم يكن لديها مشروع إسلامي واضح المعالم؟
– المشروع أصلاً كان سياسياً، ومحاولات الإسلاميين للوصول للسلطة لم تبدأ بعام 1989م، فأول محاولة للوصول للسلطة عبر انقلاب عسكري بدأت في 1959م، حيث حاول الإسلاميون منافسة الشيوعيين ونيل الغنائم والدخول إلى اتحادات الطلاب باعتبارها حكومات صغيرة، برنامج الإنقاذ في عام 1989م، جاء على أساس أنه انقلاب عسكري عادي مطعم بشخصيات لا صلة لها بالحركة الإسلامية، وكان هذا مقصوداً للتمويه بحجة أنَّ هناك موقفاً دولياً سالباً تجاه الإسلاميين وعلى رأسهم “الترابي” آنذاك بجانب الموقف الداخلي، لكن الأشياء الأساسية المتعلقة بالشريعة تمت في أيام “نميري” وجاء ذلك من شباب ليسوا كلهم من رحم الحركة الإسلامية.
يعني مجموعة “نميري” كان فيها “بدرية”، “النيل أبو قرون”، “عوض الجيد”.. وهؤلاء خرجت من أقلامهم هذه التطبيقات وليس من مطابخ الحركة الإسلامية، مسألة ما يسمى بالحكم الراشد والشريعة الإسلامية، والحركة الإسلامية باركت ودعمت ذلك باعتبار أن هذا هو مشروعها والتشريعات إلى اليوم حاكمة، وأهمها تحريم الخمور وكان حينها هناك إشكال لأن ثلث السودان كان بالنسبة له (المريسة) هي غذاء، لكن أقول نحن الإسلاميين لا نعرف المجتمع السوداني لأن المجتمع السوداني فيه (الكجور) والثقافات المختلفة وفيه التدين على درجات مختلفة (20 – 30%).
{ ما تأثير هذا الابتعاد عن فهم المجتمع على الحركة نفسها؟
– الحركة الإسلامية قفزت قفزات كبيرة، مجلس شورى الحركة الإسلامية الذي ضم في 1989عدداً من الرجال، ماذا بقي منه الآن، رئيسه في يوم من الأيام كان “الطيب زين العابدين” أين هو الآن، وقبله كان “الدسوقي” أيضاً مات مغبوناً، وكثير من أعضاء مجلس شورى الحركة الإسلامية الآن أصبحوا خارج هذه الدائرة، بعضهم التحق بـ”البشير” وبعضهم بقي مع “الترابي” وبعضهم وقف في الرصيف، وإذا كان هذا حال الذين قامت على جهودهم وتضحياتهم الحركة الإسلامية الحديثة، فما بالك بالآخرين، والآن في الجامعات الحركات السلفية تكاد تكون أقوى من الحركات الإسلامية.
{ هل هو فشل في منهج الحركة الإسلامية ذاته أم في التطبيق؟
– كله، هو كان أشواقاً وقراءات مستعجلة، وأهل النظر والفكر كانوا على الهامش، وكان هناك إعجاب بشخصية دكتور “الترابي”.. وهي شخصية متفردة ومتفوقة لكن الإعجاب حولها كان أكثر بـ”الترابي” المتفوق في العلوم العصرية الذي يجيد الفرنسية وعميد كلية القانون والملم بالثقافة، ومن أغرب الأشياء أن الحركة الإسلامية في السودان لم تنبت في المعهد العلمي ولا المؤسسات الدينية التقليدية، وإنما نبتت في جامعة الخرطوم يعني في رحم الفكر الغربي، وجاءت كرد فعل واستجابة عميقة لضغوط الحداثة.
{على ماذا بنيت هذا القول؟
-مثلاً دخول الانتخابات والفوز بها ليس موجوداً في المهدية ولا الميرغنية، ولا التجانية وإنما مأخوذ من الفكر السياسي الغربي، وتكوين حزب سياسي ليس موجوداً كذلك في الثقافة الإسلامية، فمسألة الخوارج والشيعة والملل من الناحية الإسلامية هذه لم تكن أحزاباً سياسية، وإنما كانت فرقاً وطوائف، نحن أخذنا بعض أدوات وآليات الفكر الغربي كروافع سياسية سلطوية ومثل ما تأخذ السلطة الإنجليزية وتعتبرها هدية، أو تأخذ مشروع الدولة القطرية مشروع السودان الحديث نفسه هو هدية الإنجليز، هذا لم يكن مشروع “محمد أحمد المهدي” أو الدولة السنارية؛ لأن الإنجليز عملوا مشروعاً حديثاً، والدولة السنارية كان فيها رواق السنارية في الأزهر، وكانت هي دولة وكونفدرالية ولا مركزية، لكن الإنجليز وحدوا الدولة على أساس التعليم الحديث والسكك الحديدية ومشروع الجزيرة والعملة الموحدة (جنيه) والجنيه المربوط ببنك إنجليزي.
{ هل يمكن نسبة فشل الحركة في الحكم إلى عجزها عن استنباط مشروع وتعاليم من النصوص الدينية لبلورة مشروع صالح للتطبيق؟
– (فشل) كلمة صعبة هي أصابت نجاحاً في مجالات بنسبة (30 أو 40%) كمجال الاقتصاد والتنمية، لأن في النهاية عندما (غلبهم) مشروع الإسلام السياسي حاولوا إيجاد مشروعية للدولة بالتنمية، ويقولوا للناس (عملنا ليكم طرق، بنينا السكن العشوائي) بجانب ثورة التعليم، لكن هذا يمكن أن ينجز في تشاد بأموال البترول، وليس له علاقة بالمشروع إسلامي.
هناك نجاح نسبه متفاوتة، لكن في المشروع السياسي هناك إخفاق كبير لأن الحاكم الذي جاء صادر الحريات وفشل في تطبيق مسألة التداول السلمي للسلطة، وهذا بسبب أن البنية السياسية المحيطة بالسودان قائمة على الحزب الواحد أو الاثنية الواحدة، والسودان طبق ذات الممارسات للأسف الشديد. والمؤتمر الوطني ضيع فرصة المؤتمرات التمهيدية لقيام المؤتمر العام التي قامت على رؤية إصلاحية وأعدت وثيقة، ولو كان الحزب الحاكم تبنى هذه الوثيقة الإصلاحية لأحدث تقدماً في مسار مشروعه السياسي، لكن مكونات الحزب لا ترغب في محاججة أو مراجعة رئيس الحزب و الدولة.
{ بمعنى أن مشروع الحركة الإسلامية كله تحول إلى مشروع سلطوي؟
-نعم، للأسف الشديد، على مستوى المشروع السياسي تركز الصراع حول الثروة والوظيفة، وعلى المستوى الاقتصادي الاجتماعي للأسف الشديد ليس هناك حزب الآن، هناك دولة وأصبحت الدولة والحزب والنظام شيئاً واحداً ومن يحاول وضع رؤية يصطدم بالحزب لأن رئيس الحزب هو رئيس الدولة.
فموضوع إطلاق سراح (20) من الأسرى قوبل بالرفض في حين أن اليابانيين الآن ركعوا أمام (داعش) لإطلاق سراح أسيرين وسيدفعون مائة مليون، والدولة كلها قائمة، وفي السودان تطرح مبادرة لإطلاق سراح الأسرى ومن مجموعة داخل النظام هي مجموعة (السائحون) والدولة ترفض وتتحجج ولا تعطي المطلوبات، بل نجد أن الحرب تشتعل مرة أخرى علماً بأن الحرب لا منتصر فيها، وإذا كسبت معركة لن تكسب الحرب؛ لذلك أصبح السياسي مهمشاً والكلمة للعسكر، وهذه السياسة لن تؤدي لحل.
{ ما هو دوركم كمفكرين ومؤسسين وعاكفين على الأفكار الكلية للحركة؟
-أنا لا أستطيع أن أتعايش مع هذا الجو، الدعوات تأتي والاتصالات الهاتفية كذلك من كبار قادة الدولة للمشاركة في المؤتمرات، لكن هذا ليس الجو الذي آلفه، لست جزءاً من هذا.