السودان يحصل على اكبر منحة لدولة مستعمرة من برطانيا
قراءات من ميزانية القطن إلى البترول..!!
الخرطوم ـ رقية أبو شوك
كان اقتصاداً زراعياً من الدرجة الأولى، يضاهي اقتصاديات الدول العظمى في حقبة الاستعمار انه اقتصاد بلادنا بعد الاستقلال.. فقد كان يعتمد على الزراعة والصادرات الزراعية خاصة القطن الذي كان يطلق عليه (ذهب السودان الأبيض).
وقد أكد “حماد توفيق حماد”، أول وزير مالية للسودان بعد الاستقلال، وهو يقدم ميزانية (1955ـ 1956م) أن سمات هذه الموازنة تتلخص في الاعتماد الكلي على زراعة القطن كمورد رئيسي للموازنة، وقال في خطابه إن الزراعة هي العمود الفقري لاقتصاد البلاد، وأشار إلى إن جل الإيرادات المتوقعة في أول موازنة بعد الاستقلال، البالغة (38018.888) جنيه، ستعتمد على صادرات القطن، وأشار كذلك إلى أنها جاءت دون عجز بإنفاق بلغ (34.036.274) مليون جنيه.
فرغم ان اتقادنا بني على الزراعة، بخاصة القطن، لكن معطيات خارطة الطريق الاقتصادية السودانية تغيرت بعض الشيء الأمر الذي أدى إلى تراجع الزراعة بعد دخول البترول الذي احتل المرتبة الأولى وتراجعت وفقاً لذلك المساحات المزروعة بمختلف المحاصيل الزراعية بما فيها القطن.. واستمرت مسيرة النفط في ازدياد، وانتعش الاقتصاد بالربح السريع للنفط، لكننا فقدنا جله مع الانفصال، وتراجع اقتصادنا إلى الوراء قليلاً. وفقدان معظم النفط مع الانفصال جعلنا نضع المعالجات التي من بينها البرنامج الثلاثي الذي سينتهي بنهاية العام الجاري، لتدخل موازنة 2015م ضمن البرنامج الخماسي الذي ستعلن انطلاقته مع بداية العام.
الآن ونحن نحتفل بالذكرى (59) للاستقلال المجيد رأينا أن نقلب أوراق القطن في السودان باعتباره من المحاصيل الأولى والأخيرة التي اعتمد عليها الاقتصاد بعد الاستقلال.. أين كانت البداية؟؟ ومتى انتقلت لمشروع الجزيرة؟؟ ثم نعرج على مشروع الجزيرة كمثال للمشاريع الزراعية المعطاءة.
{ البداية
“ممتاز باشا” التركي الأصل كان أول من زرع القطن في السودان، وكان حينها حاكماً لمدينة سواكن حيث قام بزراعته على دلتا طوكر في العام 1850م.
وحسب “جلال الدين محمود يوسف” في كتابه (مشروع الجزيرة القصة التي بدأت)، في العام 1903م كانت الحكومة السودانية بقيادة السير “ونجت” تسعى جاهدة لجذب رأس المال الأجنبي لاستثماره في السودان وتطوير الحياة فيه عن طريق النشاط الزراعي، وقد التقى السير “ونجت” بصديقه المستر “لاي هنت” وهو أحد أثرياء أمريكا الذين يحبون المغامرة باستثماراتهم، وتم حينها الاتفاق على منحه (10) آلاف فدان بمنطقة الزيداب بالولاية الشمالية لإقامة مزرعة تجريبية على النيل كأول مشروع لزراعة القطن مستخدماً بعض المهاجرين من الأمريكان من ذوي الخبرة الفنية والمهنية بين المواطنين المحليين، وشهد العام 1906م تركيب أول طلمبة ماء على النيل، وبلغت المساحة التي تمت زراعتها بالقطن المصري (70) ألف فدان.. وفي العام 1907م أصبحت المساحة (800) فدان، وكان وقتها عدد السكان في الزيداب (600) نسمة من السودانيين، الذين كانوا يروون أراضيهم بواسطة السواقي قبل تركيب الطلمبة ويزرعون محصولهم الأوحد (الذرة).
تغيرات اساسية ..
وفي العام 1907م حدثت تغييرات أساسية في نمط الإدارة وبعض النواحي الفنية وتم استبدال القطن المصري طويل التيلة بالقطن الأمريكي قصير التيلة لأن الطقس في الزيداب غير ملائم للصنف المصري. وكان لنجاح زراعة القطن في الزيداب صدى واسعاً في إنجلترا، لذلك سعت الحكومة البريطانية للتوسع الأفقي في زراعة القطن في السودان، حيث كان للفشل الذريع الذي لحق بالقطن المصري والأمريكي أوائل القرن التاسع عشر أثره البالغ في تطور زراعة القطن بالسودان.
{ 1925م.. الجزيرة والانطلاق ..
خرجت الصحف البريطانية في العام 1913م وبالخط العريض تحمل نبأ موافقة مجلس العموم البريطاني على منح السودان قرضاً في حدود (3) ملايين جنيه مصري، وهو أكبر قرض تمنحه الحكومة البريطانية لأي من مستعمراتها في العالم، حيث كانت التقديرات الأولية لبناء الخزان وحفر الترعة الرئيسة وتشييد البنيات الأساسية بالمشروع (3) ملايين جنيه.
وكان العام 1925م بداية الانطلاقة الحقيقية لأكبر مشروع في العالم منذ ذلك التاريخ وحتى الآن في مساحة (2.2) مليون فدان، ويعدّ أكبر مشروع إنتاجي في دول العالم الثالث. وكان أول من كتب عن هذا المشروع ودون تاريخه بجدية هو المستر “جيتسكل” الذي جاء مفتشاً صغيراً في العام 1923م.. وقد أكد “جلال الدين محمود” في كتابه عن المشروع أن “جيتسكل” قبيل مغادرته السودان ترك وثيقة تاريخية مهمة سماها (الجزيرة قصة التنمية في السودان) وكان يدعوه مرة بالمشروع الخرافي ومرة باللا معقول، أي أنه فوق تصور البشر وهو أقرب إلى الإعجاز الكوني منه إلى الإعجاز البشري، كما أن أحد العلماء الذين زاروه كان يطلق عليه اسم (الماموث) وهو حيوان خرافي منقرض كان يعيش في أمريكا الشمالية وتشبّه به دائماً الأعمال الخارقة أو الأشياء الخرافية أو الأسطورية التي تخترق حجاب العقل البشري.
{ حقبة ما قبل الاستقلال
ظهرت في حقبة ما قبل الاستقلال الكثير من الأغاني الوطنية، ومن أجمل ما تُغني به تلك الأغنية التي تنادي بتأميم مشروع الجزيرة والتي كتب كلماتها الشاعر “عبيد عبد النور” وتقول:
يا أم ضفاير قودي الرسن
واهتفي فليحيا الوطن
يا جزيرة نيلنا السلام
من قلوباً حاباك دوام
ليها فيك آمالاً جسام
يا يتم يا يحصل كلام
وكلمة (آمال) تشير إلى تأميم مشروع الجزيرة.. إما أن يتم أو (يحصل كلام).
العام 1946م شهد أول إضراب جماعي لمشروع الجزيرة في تاريخ السودان، حيث تجمع المزارعون وأقسموا اليمين أن لا يقدموا على زراعة محصول القطن حتى توافق إدارة المشروع على صرف مال احتياطي المزارعين، وقد صادفت هذه الوقفة موعد زراعة المحاصيل.. كما شهد العام 1954م أول اتحاد للمزارعين بالجزيرة برئاسة “الأمين محمد الأمين”، وتعاقب هؤلاء على إدارته، حيث كان مسمى الوظيفة الأعلى في ذلك الوقت (محافظ) للمسؤول الأول بالمشروع إلى أن تم تغييرها إلى المدير العام، وجاء اسم المدير العام لأول مرة عندما تم تعيين “أحمد البدوي محمد صالح” في عهد (الإنقاذ)، وهم:
} المستر “آرثر جيتسكل” أول محافظ للمشروع بعد التأميم من (1955 إلى 1958م).. “مكي عباس” أول محافظ سوداني لمشروع الجزيرة من (1955 إلى 1958).. “مكاوي سليمان أكرت”.. “ميرغني الأمين الحاج”.. “حسن متوكل”.. “كمال عبد الله عقباوي”.. “عباس عبد الماجد”.. “الصادق بدري”.. “حسن عبد الله هاشم”.. “حسن الطيب الحاج”.. “عبد العظيم محمد حسين”.. “عبد الله محمد الزبير”.. “نصر الدين محمد نصر الدين”.. “عز الدين عمر المكي”.
} “أحمد البدوي محمد صالح” أول مدير عام للمشروع بعد وظيفة المحافظ.. بروفيسور “فتحي محمد خليفة”.. بروفيسور “الأمين دفع الله”.. د. “عمر علي”.. بروفيسور “كمال نورين”.. بروفيسور “صديق عيسى”.. المهندس “عثمان سمساعة” المدير العام الحالي لمشروع الجزيرة.
بعد ذلك استمرت مسيرة المشروع في التطور وظل يعطي أهل السودان وكان القطن على رأس القائمة.
يقول الشاعر:
في الجزيرة نزرع قطنا
نزرع نتيرب نحقق آمالنا
ويقول آخر:
نزرع القطن اللقاوة
ونفرح أولادنا بالحلاوة
واستمر الحال إلى أن طاله الإهمال بعد النفط وتراجع الإنتاج بعد أن مزقنا عبره فاتورة القمح موسم 1991م على يد بروفيسور “أحمد علي قنيف” الذي كان حينها وزيراً للزراعة، وكان هذا العام- أي 1991م- عام الإنتاج الوفير، مع بدايات تطبيق البرنامج الثلاثي الذي وضعته وزارة المالية إبان عهد الوزير “عبد الرحيم حمدي” الذي ركز على الزراعة وتحريك جمودها.. وقد كان.
بداية الانهيار ..
قانون 2005م كان من ضمن بنوده تغيير التركيبة المحصولية وترك خيار الزراعة للمزارع، وبالفعل تغيرت التركيبة المحصولية وهجر المزارعون زراعة القطن واتجهوا إلى زراعة محاصيل ذات عائد سريع كـ(البصل، العدسية والكبكبي) التي تعدّ محاصيل هامشية.
المزارع “حسبو إبراهيم محمد” أكد في ورقته التي قدمت مؤخراً في ندوة عن مشروع الجزيرة أن قانون 2005م جاء قاصمة للظهر، لأنه سمح للمزارعين ببيع ورهن أراضيهم، مما فتح الباب واسعاً أمام المؤسسات والشركات متعددة الجنسيات لشراء أراضي المزارعين وخصخصة المشروع. كما أكد عدد كبير من المراقبين أن هذا القانون هو سبب كل المشاكل التي لحقت بالمشروع.
وأوضح الخبير الاقتصادي المعروف ووزير الدولة بالمالية الأسبق د. “عز الدين إبراهيم” في حديثه لـ(المجهر) عن مشروع الجزيرة أن كل أهل السودان تعلموا على ظهره، كما أن كل مشاريع التنمية بالسودان حتى السبعينيات قامت على ظهره أيضاً، مشيراً إلى أن المشاكل الحالية التي يعاني منها المشروع تأتي لأسباب داخلية وأخرى خارجية.. تتمثل الخارجية في شكوى لمنظمة التجارة العالمية التي تؤكد أن أمريكا تدعم زراعة القطن كما أن الأسعار التي تعلن عالمياً غير مجزية للدول النامية بما فيها السودان. وأشار د. “عز الدين” إلى أن الأسعار العالمية للقطن في العام 1911م كانت دولارين لرطل القطن أما الآن فقد بلغ سعر الرطل (60) سنتاً.
وحسب د. “عز الدين” فإن المزارع الآن ليس كما كان، خاصة وأن قانون 2005م منحه الحرية في زراعة ما يشاء.. فالدولة تريد مثلاً زراعة القمح، لكن المزارع يريد أن يزرع بصلاً.
هذه هي مسيرة المشروع الذي كان ينتج ذهبا نتركها اليوم بين أيديكم ونحن نحتفل بالذكرى (59) للاستقلال، وندعو للتامل.
فما بين اقتصاد القطن والبترول الذي حلا علينا مؤخرا مساحات ومساحات، خصوصات بعد ان انفصل جنوب السودان وبات اقتصاد البترول في مهب الريح، فهل تكون الذكرى (59) سانحة لنعيد الاقتصاد الاول والذي اتي بالانجليز محتلتين الا وهو اقتصاد الزراعة .