بترولنا المهرب.. وصمغنا وذهبنا!!
تظل حكومتنا تعيد وتكرر شكواها من تهريب موادنا البترولية (المدعومة) إلى دول الجوار، نظراً لارتفاع قيمتها هناك وانخفاضها في السودان!! واستخدمت الحكومة هذا المنطق المعوج لرفع أسعار المحروقات عدة مرات خلال السنوات الخمس الماضية تحت مسمى (رفع الدعم عن المحروقات)!!
لكن أحداً لم يسأل الحكومة يوماً: إذا كان بترولنا يتم تهريبه شأنه شأن صمغنا (العربي) وذهبنا (العشوائي) إلى “إثيوبيا” و”إريتريا”، فلم لا يأتينا بترول “ليبيا” (الهامل) تهريباً، عبر ذات الصحارى التي تعبرها كل يوم عصابات تهريب البشر بقوافل السودانيين والأحباش المغامرين بحياتهم الراغبين – في حال نجاتهم – في الهجرة إلى أوربا عبر بحر ليبيا المتوسط ؟!
مؤكد أن البترول في “الكفرة” أرخص من بترولنا المحلي والمستورد، وقد تعادل قيمة الجالون هناك قيمة (ثلاثة) جوالين هنا، فكيف تعذر تهريبه إلينا وسهل تهريب بنزيننا الغالي إلى دول جوارنا الشرقي؟!
حكومة السودان اتهمتها بعض الأطراف الليبية وجهات إقليمية ذات مصالح في البلد الذي يشهد حرباً ضروساً بعد قتل “القذافي” وسقوط نظامه، اتهمتها بدعم كتائب (الإسلاميين) الليبيين، ولعلكم تذكرون قصة الطائرة السودانية التي هبطت بإحدى المطارات الليبية قبل أشهر، وأوضحت وزارة الخارجية حقيقة مهمتها وحمولتها، ألم يكن أهون علينا.. وأجدى لشعبنا أن نتهم بتهريب البترول الليبي بعد دفع ثمنه، بدلاً من اتهامنا بتوريد السلاح لطرف، حتى وإن كان كذباً؟!
في ستينيات القرن المنصرم، وإبان حقبة الديمقراطية (الثانية)، روج خصوم الزعيم السياسي النادر الذي – في رأيي – لم تنجب حواء السياسة السودانية مثله رجلين، الشريف “حسين الهندي” رحمه الله، روجوا حوله اتهامات بأنه كان يهرب الذهب من أفريقيا الوسطى ودول أخرى، ويدعم بها اقتصاد حكومته التي كان يشغل بها منصب وزير المالية، كما كان يتعاون مع الرئيس المصري “جمال عبد الناصر” في دعم حركات التحرر الوطني الأفريقية والعربية بعائدات الذهب!!
لا أدري مدى صحة هذا الزعم أو الاتهام ، غير أنني سمعته كفاحاً من معاصرين لتلك الفترة. ولا أرى أن (الشريف) ارتكب جرماً بفعله إن فعل، وكان الرجل من أصحاب الثروات القلائل الذين يوجهونها للعامة، لا للادخار والنعم الخاصة، وقد ورثها من أبيه الشريف “يوسف الهندي” وأسرته الكريمة التي تعد البيت الديني (الثالث) في السودان بعد طائفتي (المهدية) و(الختمية)، ولم يجنها من وزارات وإدارات واستغلال نفوذ.
عهد وزير المالية الشريف “حسين الهندي” كان الوحيد.. الأول والأخير في تاريخ السودان الذي شهد تخصيص بند في الميزانية العامة للدولة باسم (بند العطالى). فمثلما تفعل الحكومات حالياً في أمريكا وألمانيا وبعض دول أوربا، فعل (شريف السودان) فمنح العطالى (راتباً) شهرياً من الحكومة إلى أن يجدون عملاً !!
وقد حدثني أحد معارفي، ويعمل فنياً بناقلة بترول تابعة لشركة أوربية، أن السادة (الخواجات) نهبوا بترول ليبيا، و(حلبوه) كما يحلب رعاتنا الأبقار في فرقان السودان فجراً وعشية، وعاثوا فيه فساداً بحجة سداد فاتورة عمليات (الناتو) التي ساعدت في الإطاحة بنظام العقيد المقتول!!
البترول الليبي يهرب إلى أوربا وأمريكا، ألسنا نحن – أهل الجيرة – أولى به، بتعاقدات مع الجماعات الليبية المسيطرة على الحقول، بعد دفع قيمته وهي أدنى من قيمته عندنا؟!
ومثلما تشتكي حكومتنا من تهريب البترول إلى دول الجوار، فإنها تصمت على تهريب السكر من إريتريا لكسلا مثلاً، وعشرات السلع من تشاد لأسواق دارفور !!
وقد كنت متعجبا قبل (7) سنوات وأنا أزور “أسمرا ” أن جوال السكر بعبوات (كنانة) أدنى بما يعادل (النصف) في إريتريا وكسلا وأريافها من سعره في الخرطوم!! وعندما سألت قالوا إنه سكر منظمات بعبوات (كنانة) أو أن رسوم الجمارك الإريترية أقل بكثير من رصيفتها السودانية.
بصفة عامة، أنا غير مقتنع وغيري كثر، بحكاية (دعم المحروقات) التي يزعجنا بها وزراؤنا وبعض نواب البرلمان، فإذا كان سعر برميل النفط – عالمياً – اليوم (55) إلى ( 60) دولاراً ، فإن هذا يعني أن المواطن (يدعم) الحكومة في هذه الميزانية، وليس العكس. وحتى لو زاد السعر عن (مائة) دولار، فإن ما تدفعه الحكومة من (معالجة فرق السعر) وهو الاسم الصحيح لدعم المحروقات، يدفع المواطن أضعافه في رسوم الجمارك والضرائب والمحليات وغيرها. فاتورة الجمارك السودانية على السيارات مثلا تبلغ (100%) في أغلب الحالات، وهي أضعاف فاتورة جمارك السعودية ودول عربية وأفريقية عديدة. وبالتالي فإن ما أدفعه للحكومة في جمارك سيارتي، تدفع لي نذراً يسيراً منه في معالجة فرق سعر البترول لسنوات، في حال بلغ البرميل سقف المائة دولار وأكثر.
الحجج الضعيفة دائماً تمشي بلا سيقان.