هكذا ترحل النوارس … وداعاً ملك النشرات الإخبارية وشيخ المذيعين .. "الفاتح الصباغ"
بروفايل – آيات مبارك
فُجعت الأوساط الإعلامية وكافة الشعب السوداني بوفاة صاحب الصوت الرخيم شيخ المذيعين الأستاذ “الفاتح الصباغ”، وقد وري الثرى بمقابر “أحمد شرفي” إثر علة طارئة لم تمهله طويلاً. وقد ترك العمل الإذاعي منذ العام 2007م .. وهو يشنف آذان المستمعين بالصوت الرصين المُعبّر واللغة الباهرة الفصيحة. من منا لم ترتبك ذائقته السمعية لطبقات صوته الواضحة وتستسمحه أخبارنا المحلية والعالمية وهو معانق للمايكرفون طيلة ما يقارب الثلاثين عاماً، ومنذ الستينيات عبر إذاعة أم درمان لينتقل بعدها إلى التلفزيون في العام1982 عندما كان الدخول للعمل في التلفزيون في غاية الصعوبة في عهد المهندس “حسن عبد الرحمن”، وبدأ أول عمل تلفزيوني ضمن (أسرة جريدة المساء).
لم يكن “الفاتح الصباغ” مذيعاً فقط بل موسوعة من الموهبة والمهارات فقد كان كثيراً مايدندن بأغنيات عبد الكريم الكابلي”، “محمد الأمين” صلاح محمد عيسى”، “إبراهيم عوض”، “مصطفى سيد أحمد”. وعمل ببرامج الأطفال وقام بتمثيل عدد من المسرحيات منها مسرحية ( اليتيم). ومن هواياته أيضاً لعب كرة القدم.
ولد “الفاتح الصباغ” في (حي أبوروف) بمدينة أم درمان في العام1949م.
درس بمدارس الشعب بـ(بحري) وتخرج في معهد بخت الرضا معلماً للغة العربية .. لكنه دخل الإذاعة وبدأ ارتباطه بالعمل الإعلامي عبر( فرقة السودان للتمثيل) إلى أن تم تعيينه مذيعاً في الإذاعة في سبعينيات القرن الماضي، وإلى أن تقاعد للمعاش في العام2007م. ومن المهام التي أوكلت إليه رئيساً للجنة اختيار المذيعين الجدد.
أتى من الإذاعة إلى التلفزيون في العام 1982م، وحينها كان الدخول
إلى أروقة التلفزيون في غاية الصعوبة، عندما كان مديره آنذاك المهندس “حسن عبد الرحمن، وبدأ العمل ضمن أسرة برنامج “جريدة المساء “تحت إشراف الأستاذ حمدي بدر الدين، وبعدها انتقل
إلى نشرة الأخبار . وقد كان من مجايليه الأستاذ “حمدي بدر الدين”، “عمر الجزلي”، “محمد طاهر”، وأبو بكر عوض، ومتوكل
كمال”. ويعد ” الفاتح الصباغ” أول من أدخل ارتداء الزي القومي في نشرة الأخبار.
مجتزأ من كلمة بن عمه “زكريا الصباغ” في تكريمه
وأتذكّر ونحن أطفال كيف كان يتبادل الطرائف مع والده وعمي “سيد بشير الصباغ”: (ترزي الستات)، والذي لم ينل قسطاً وافراً من التعليم ولكنه كان – رحمة الله عليه- يتمتع بمهارات إبداعية في تصميم التفصيل من كتالوجات بيوتات الموضة الباريسية في الزمان الغابر. وكان “الفاتح” أمهر الأطفال، يصنع كرة (الشراب) وفي طفولته كان يجيد لعب كرة القدم وإتقان فنها ومراوغتها، فمن شابه أباه فما ظلم.
“الفاتح الصباغ” ابن جيلي، أتذكره وهو صبي يافع يتحدث بمنطق ولغة ومفردات الكِبار منذ نشأته الأولى. وكان يتحلّق مع المتحلّقين منهم حول المذياع في بواكير الخمسينيات ليستمع إلى الأستاذ المرحوم الإذاعي الرياضي المُخضرم “طه حمدتو” وزميله” أبارو” والأستاذ “على محمد شمو” أطال الله بقاءه- وهم يقدمون وصفاً لمباريات كرة القدم عند الثالثة والنصف عصراً من دار الرياضة بأم درمان. وكان هو مثار إعجابنا وهو يحفظ أسماء لاعبي الكرة في ذاك الزمان عن ظهر قلب، وكان يفرح لانتصارات فريق المريخ ويحزن لهزيمة الفريق الأهلي السوداني (الفريق القومي) حالياً وهو صاحب السبق في تسمية فريق المريخ عندما صار إعلامياً مرموقاً (جالب الكؤوس المحمولة جواً)، عندما انتصر في إحدى المنافسات الأفريقية وعاد حاملاً معه الكأس على الطائرة.
“الفاتح الصباغ” أول طفل في السودان شارك في التمثيليات الإذاعية والروايات الدرامية مع أساطين التمثيل آنذاك، أمثال عمه الراحل”محمود الصباغ” وأساتذته الراحلين “أحمد قباني” و”فرّاج الطيب” و”ميّسرة السراج .
الوفاء لأهل العطاء
ولأن أصحاب أيادي السبق .. لا تكون مغلولة تجاههم أيادي .. لذلك فقد كرمته رئاسة الجمهورية والتلفزيون القومي .. وبرنامج (الراعي والرعية).. والعديد من الجهات التي كان لها قصب السبق في تكريمه بأيدٍ قصيرة تجاه ما قدمه.. وكان كعادته متواضعاً ..بصفات تنحو بقيم الأخلاق من أهرام سامقة.
يد المنون
ولأن الموت يأخذ الخيرين .. ومن حباهم الله بجمال حتى يكونوا بجواره .. فقد فارق دنيانا بعد سنوات مليئة بالعطاء غير المحدود، مخلفاً ذاكرة مشحونة بصدى صوته الشامخ.