"ود يحيى" مع السلامة
خلت صحف الخرطوم الصادرة حتى أمس (الثلاثاء) من نعي لرجل عاش زاهداً ومات فقيراً.. وشق دربه في الحياة نظيفاً.. وتسنم السلطة من محافظ حتى والٍ يتصل بالرئيس في هجعة الليل.. وتفتح له أبواب القصور والممالك والوزارات.. لم تنع الراحل “إبراهيم يحيى عبد الرحمن” أية جهة حكومية حتى الحركة الإسلامية التي انتسب إليها في صباه الباكر وهو في المرحلة الثانوية استكثرت عليه ربع صفحة إعلان يعدد مآثر الرجل في فضاء الدعوة الإسلامية.. أما يوم رحيله الفاجع فقد خرجت من باطن الأرض وجوه تضئ عتمة الليل البهيم من العاكفين في المساجد وغابت وجوه إخوة الأمس من العاكفين في الوزارات والمصارف والشركات وهم لا يتذكرون شيئاً من الماضي القريب ولا البعيد، وربما لا يعرفون من هو “إبراهيم يحيى عبد الرحمن” إلا حينما يستحضرون مأزق الحكم اللامركزي الحالي، وكيف أن (مساليتياً) من أطراف “الجنينة” في أقاصي الغرب البعيد قد أُسندت إليه إدارة محافظة (المتمة) معقل ملوك الجعليين وسلطانهم القديم ومجددهم الجديد ومستقبلهم المشرق.. وكيف أن الرجل الذي يرتدي جلباباً ناصع البياض وبشرته سوداء ولكن جبينه وضئ وقلبه أبيض.. جاء إلى “المتمة” بأمر السلطان.. عدل بين الرعية لم يميز “عثمان” الخضرجي و”مأمون” التاجر عن “مجذوب” القريب من السلطان المركزي.. عاش “إبراهيم يحيى عبد الرحمن” دون أن يسأل الجعليون من أين جاء وكيف جاء؟.. ولكنهم اكتشفوا في الرجل نزاهة لم يعهدوها في الضباط الإداريين ولا المديرين التنفيذيين وزهداً في الدنيا وحباً للخير.. اتكأ الرجل على جراحات عميقة في صدره يوم خروجه من “الجنينة” التي ذهب إليها والياً من أهلها.. فاختارت الحكومة المركزية له رقيباً شرعياً من المركز ووضعوه فوقه باسم حفظ الأمن.. ظن “إبراهيم يحيى” أن أمثاله إذا ضاقت بهم السلطة يعودون للحركة الإسلامية التي نشأوا في أحضانها وتشربوا من قيمها.. لاذ بالشيخ “الترابي” مستجيراً من رمضاء خلافات رمضان ليصبح واحداً من قيادات حزب (المؤتمر الشعبي).. لكنه لم يطق ظلم ذوي القربى وحياة السجون والمعتقلات والرقابة الأمنية.. فآثر حمل السلاح مصطفاً مع من حملوه من أبناء “دارفور”.. فكانت حركة (العدل والمساواة) هي ملاذه الذي ظن فيه خيراً.. فاكتشف بعد سنوات أن الكلام غير الأفعال.. وأن حريق “دارفور” لا يمت لا للدين بصلة ولا بالخلق الذي نشأ عليه “إبراهيم يحيى” بشيء.. ترجل من رئاسة المجلس التشريعي للحركة المتمردة وهو مجلس صوري هل يصدق أحد أن حركة متمردة تحمل البندقية تخضع لرقابة برلمان بلا صلاحيات ولا مقر ولا جود له على الأرض.
قذفت به أشواق السلام والإصلاح والرجاء والأمل في إخوة الأمس لقلب الخرطوم ليطوي صفحة التمرد بذات جسارته في قول ما يؤمن به وما يعتقد أنه الصواب.. وقع على السلام وعاد للخرطوم بأشواق المسلم الصادق والعبد الفقير والسوداني المتوكل على الواحد الأحد.. أخذ ينظر ويتقرب فجراً من الشرق تبزغ شمسه وليل حالك خيّم على سماء بلادنا.. وحينما أصابه اليأس من الجميع آثر الاعتكاف في المساجد يسأل الله أن يغفر له سيئات النفس وخطاياه ما ظهر منها وما بطن.. ينظر لوجهه في المرآة وقد رسم الزمن تجاعيده على الخدود النايرة الوضيئة.. اعتزله إخوان الأمس خاصة ممن هم في السلطة يمتطون الفارهات من المراكب وينعمون في جنة عرضها المسافة من “الجنينة” حتى “سنكات”.. ينظرون إلى “إبراهيم يحيى عبد الرحمن” بالمتمرد.. كأنه “مني أركو مناوي” أو “عبد الواحد محمد نور” أو بقية الذين لا يعرفونهم إلا بمواقفهم!!
رحل “إبراهيم يحيى عبد الرحمن” عن الدنيا قبل أن يوارى جسده الثرى هذا الأسبوع بانقطاعه عن الفانية وصمته عن الكلام والانكفاء على جراح نفسه التي لم تندمل حتى استراح في مرقده الأخير بـ(مقابر حمد النيل) بأم درمان.. وتداعى لوداعه الأخير رجال تعرفهم بسيماء في وجوههم.. جاء ملح الأرض من الفقراء.. وحفظة القرآن وطلاب الخلاوى من كل فج عميق.. وجاء الأهل من “المساليت” سيراً على الأقدام لوداع رجل قل أن يجود الزمان بأمثاله.. مات “إبراهيم يحيى” وفي النفس شيء وفي الذاكرة أحداث.. طوى أسراره ورحل. ألا رحم الله رجلاً سمحاً توارى عن الأنظار قبل أن نحدق في لحيته البيضاء ونصغي لحديثه الهامس ونأخذ من تجربته العبرة والاعتبار.