حزني عليك
في بواكير الصبا دغدغت مشاعرنا وأحاسيسنا رواية Cry The Beloved Country (ابككِ يا وطني الحبيب) التي كانت ضمن مقررات الأدب الإنجليزي في المرحلة الثانوية، واستوحى طلاب مدرسة “كادقلي: الثانوية (تلو) من شخصية “استيفن كومالو” الذي يمثل بطل الرواية اسماً تنظيمياً عنصرياً في باطنه وسياسياً في ظاهره وسرياً في منهجه، ذلك التنظيم (الكومالو) هو من حمل أبناء النوبة لأحضان الحركة الشعبية والجيش الشعبي.. جماعات وأفراد لبذر ثمرة التمرد الحالية.. لكن كتاب (ابككِ يا وطني الحبيب) كان تحفة رائعة من الأدب الواقعي ودغدغة المشاعر الوطنية، ومحاولة ذكية من الآباء المعلمين الذين كانوا يشرفون على المناهج لإحياء وبعث الانتماء الأفريقي في الوجدان القومي.. وحب الأوطان.. واستلهمنا من تلك الروايات الرائعة عبراً ودروساً في الوطنية بيد أن الذي يدمي القلب ويمزقه و(يفقع المرارة) وهو تعبير يستخدمه المهندس “الطيب مصطفى” كثيراً حينما يكتب عن جنوب السودان سابقاً، أو يطلق الدعوات لنبذ السلام من خلال الحوار والسعي لإقناع الناس بأن ثمة سلام عزة وكبرياء يأتي من (فرج البندقية) وفوهات المدافع وأنين الرصاص.. وتلك اللغة وتلكم الأفكار الشريرة هي ما جعل الوطن طارداً لبنيه.. وصحافتنا الوطنية تنشر عارنا على الفضاء الإسفيري وصور مئات الشباب يتدافعون على بوابة سفارة دولة أجنبية هي “قطر” يمنون النفس بالحصول على وظيفة في الجيش القطري، ولم تتعدَّ الوظائف التي أعلنت عنها السفارة القطرية أصابع اليد الواحدة.. ليهرع الشباب الذي فقد الأمل في وطنه وبات ضائعاً يجلس في ظلال الأشجار في انتظار المجهول.
لو كانت أجهزة الرقابة الحكومية تنظر بعيداً وتضع سمعة بلادها نصب عينها لأمرت عبر هاتف منتصف الليل يحظر نشر خبر الشباب الذي احتل واجهة السفارة القطرية.. لا تعتيماً وخرقاً لحقوق الصحافيين ولكن درءاً لعورات الوطن من الشيوع في أسافير الدنيا، ومن أجل أبناء السودان المنتشرين في بقاع الأرض الواسعة الذين يسوؤهم مظهر أبناء جلدتهم وهم (يفرون) من وطنهم فرار العنزة الصحيحة من القطيع الأجرب!!
ما الذي جعل هذا الوطن طارداً لبنيه ولافظاً لهم في أرض الله الواسعة من بلاد العرب إلى العجم من “سدني” في أستراليا وحتى كليفورنيا في أمريكا، ومن “كيب تاون” في جنوب أفريقيا وحتى روسيا البيضاء في أقصى الشمال.. كيف أصبح وطنا الباسمو رطنا ثقيلاً في الصباح والعشيات.. واستيأس أبناؤه من طرق الإصلاح والعيش الكريم وساسته وقادته يتوعدون بعضهم البعض بالسحق والقتل، وما القاتل والمقتول إلا هؤلاء الشباب الذين طويت أحلامهم في الضلوع وذابت تطلعاتهم في عز الشباب.. وهرموا قبل أن يبلغوا الثلاثين من العمر.
وهل كانت أحداث سبتمبر من العام الماضي احتجاجات سياسية من ورائها الأحزاب التي تملأ الدنيا نعيقاً بالديمقراطية وهي بعيدة عنها، أم كانت أحداث سبتمبر تعبيراً عن احتقانات في النفوس وسخطاً من الواقع.. وغضباً من بعض الفئات التي تشعر بالحرمان.. وفقدان الأمل في الإصلاح لذلك لجأت للتخريب والفوضى والقتل والسحل.
وهل أدركت الحكومة الأبعاد الاجتماعية الحقيقية لتلك الأحداث؟؟ وهل اتخذت تدابير وسياسات للحيلولة دون تنامي الأحقاد والضغائن في المجتمع.. والتدابير المقصودة هنا.. ليس تدابير أمنية وعسكرية بقدر ما هي سياسات اقتصادية ذات أبعاد اجتماعية.
لقد أصبح السودان بعد 2005م، أي بعد توقف الحرب جاذباً للعمالة الوافدة من بلاد العرب وأفريقيا وازدهر الاقتصاد وأخذت التخوم البعيدة والأطراف في التعافي من أمراض طالت واستطالت، ولكن جاءت خيبة الأمل الكبرى بعودة الحرب التي أفرزت الواقع الراهن.. حيث الهروب الجماعي من الوطن.. والتسلل حتى لإسرائيل انتحاراً وإقبالاً على ما هو مبغوض في النفس السوية.. ولكن حينما يصاب الشباب باليأس والقنوط وتتملكهم أشواق الهجرة لأي وطن بديل لوطنهم، لا عجب إن تداعى المئات لأربعة وظائف ولكن لماذا نحن السودانيين ننشر هذا الغسيل للكافة.
قديماً قال الراحل د.”محمد الواثق” حينما هاجر من جامعة الخرطوم إلى ليبيا وعين في وظيفة وضيعة نعى بلاده بالقول:
ما كنا في السودان نعاني ضيق معيشة
لو ساد في السودان أهل البصائر
فهل كان سيهرع لنوافذ الاغتراب الآلاف من الشباب لو سادت في بلادنا سياسات حكيمة درأت عنا شرور الحروب ما ظهر منها وما بطن!!