"عرمان" الخبز والدم !
بدا لافتاً وغريباً في دعوة “ياسر عرمان” وجماعة متمردي قطاع الشمال لمنح منطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان حكماً ذاتياً جنوحها للتبرير وفق السياقات الدينية، فعرمان يزعم أن المنطقتين هما آخر معاقل المعتنقين للمسيحية! والرجل من حيث لا يدري يقع في مرمى مساقط النيران التي ظل هو وأشياعه يطلقونها على حكم الرئيس “البشير” والحركة الإسلامية بزعم أن الإنقاذ نظام يقوم على فكرة دينية محضة مما يضاد فكر الدولة المدنية. وليس منكوراً أن هذا التوجه ظل مركوزاً في أدبيات اليسار العريض وطيف واسع من توجهات حاملي السلاح، والذين عدا عن حركة العدل والمساواة ذات الجذور الإسلامية فلا يوجد فصيل إلا وهو مساند لرؤية علمانية ولو من باب (دواس كان عجباك اندس)، كما يقول المثل الدارفوري الشهير، فيما يبقى “عرمان” نفسه رفيق فسل وهو القائل من قبل نحن لا نسمح بدولة لا تمنح آلهة الدينكا والأنواك والنوبة نفس الفرصة التي تمنحها لآلهة المسلمين !!
تقديري أن رئيس الحركة الشعبية شمال لم يقصد بخطابه في تسويق البعد الديني لمسوغات طلب جماعته لم يقصد الداخل فهو أصلاً لا يهتم كثيراً بذاك وإلا لما حرص وتمسك بأن يكون بغيض المشهد السياسي، وإنما يقصد ويشير مباشرة للدوائر الكنسية التي ارتبطت أصلاً بالنزاعات السودانية دعماً وتمويلاً ورعاية للجهات المناهضة للحكومة المركزية، إذ ليس سراً أن منظمات مثل سمارتن الأمريكية، والعون الكنسي النرويجي، وعشرات غيرها كلها جهات ارتبطت بدوائر كنسية. وقد نشطت في جنوب كردفان تحديداً وبشكل لافت وكانت تعمل ضد قاعدة توجهات المواطنين الذين هم بأي معايرة وحسابات مسلمون وأغلبية فيما يمثل المسيحيون في مناطق جبال النوبة مجموعة واحدة من جملة عشر مجموعات، وفي حزام معروف من حيث الجغرافية ونطاقات وجودهم، وبحسب مرجوح الإحصائيات المسلمون حوالي (95%) من كتلة السكان المحليين، وتاريخياً ارتبطت جبال النوبة بالإسلام منذ القرن السادس عشر الميلادي.
المقارنة الموضوعية تشير بجلاء أن دمغ جنوب كردفان والنيل الأزرق – الأخيرة نسبها للمسيحية أقل تماماً – تشير إلى أن الغرض من مناورة “عرمان” بخلاف ابتزاز الحكومة سيكون ضمان استقطاب حاضنات كنسية، من منظمات وحكومات أصولية في المسيحية توفر له غطاءً للتحرك تحته. وواضح أن العمل المعارض للخرطوم بعد خفوت أزمة دارفور قد قل أو سيقل فيه الداعمون، فكان لابد من وجود دوائر إسناد أخرى ولئن تم حلب ضرع المجتمع الدولي بفريات الاغتصاب والإبادة في دارفور فقد حان الوقت لاستدرار عطفه بتوجه جديد مثير للحساسية عند الغرب، بحجم الإشارات لوجود جماعات مسيحية في الجبال وغيرها ينشدون إقامة حكم ذاتي تحت ظلال عهد جديد يمثل فيه “ياسر عرمان” الواقف على قداس يتناول خلاله قطعة صغيرة ورقيقة من الخبز يغمسها في الدم، ولن يكون بالطبع دم المسيح وإنما دم المساكين من الأهالي والسودانيين الذين لا يكتمل فيما يبدو إلا بهم مجد المناضلين والباحثين عن الحكم.