الداء المميت
ظاهرة الصراع القبلي الذي أهلك الآلاف من الأرواح في دارفور كثمرة مرة للآثار المباشرة للحرب التي تدور في الإقليم منذ عام 2005م، توقعت جهات بحثية ومنظمات طوعية وأجهزة مخابرات دولية وإقليمية انتقال كل أمراض النزاعات في دارفور إلى كردفان وخاصة الجنوبية منها لما تجمع كردفان ودارفور من روابط الأعراق والنشاط الإنساني المشترك والتعدد والتمازج إلى حد التماهي، وقد استثمرت الحركات المسلحة في المشتركات من القضايا وتم خلق واقع سياسي الآن تصعب إعادة فرزه وتفتيته، ومع استمرار أسباب الصراع في الإقليمين، فإن بروز المشكلات القبيلة في كردفان يبدو متوقعاً ويجب على الدولة أن تنظر إليه بقدر من المسؤولية لأن السياسة التي اتبعت في دارفور قد ضاعفت من محن البلاد وأنهكت خزائنها بالصرف على الأمن وهي خزائن تشكو أصلاً من نقص المال.
في الأسبوع الماضي نشب نزاع قبلي بين بطون (قبيلة الحوازمة) في جنوب كردفان أدى لمقتل ثلاثة أشخاص وجرح نحو عشرة آخرين، وفور وقوع الحدث نهضت ثلاث جهات بمسؤوليتها كل بما يليه، الجيش من خلال الفرقة (14) نشر قواته في مسرح الحدث ومعه قوات من الشرطة، وعزز جهاز الأمن وجوده الاستخباري على الأرض للحيلولة دون تمدد النزاع، وكان الدور السياسي والتنفيذي لحكومة الولاية أن أصدرت قرارات لدعم المجهود العسكري بحظر السلاح والتوجيهات بجمعه ونزعه من أيادي المواطنين فوراً وانتقال معتمد محلية القوز التي شهدت الأحداث لموقع النزاع. أما الإدارة الأهلية فقد لعبت دوراً مهماً في وأد الفتنة ولم تمض ساعات إلا وعادت الأوضاع لسابق عهدها ودفنت الفتنة، وتم أمس فتح المدارس والمؤسسات الحكومية لتثبت الإجراءات الفاعلة والتحرك المسؤول أن النزاعات القلبية يمكن السيطرة عليها إن تحملت كل جهة في الدولة مسؤوليتها وقامت بما ينبغي القيام به.
وقد عدت أمس من مسرح الصراع الذي نشب وواسيت أهلي بما حلق بهم من شقاق كاد أن يهلك الآلاف من الضحايا لولا الحكمة التي تحلت بها الحكومة في تعاملها مع الأحداث وقرارات لجنة أمن الولاية والوالي رغم أن السلاح في منطقة (خور أبو حبل) يتوافر بكميات مهولة في أيادي الأهالي نظراً لما وضع على عاتق المواطنين من مسؤولية الدفاع عن المنطقة بسبب التمرد الذي وجد هناك مقاومة من الأهالي أكثر من الحكومة، ولكن نتائج ذلك نحصدها اليوم انتشاراً للسلاح وغياب لسلطة الدولة، بل أحياناً تشكل عسكرة المدنيين وخوضهم للحروب جنباً إلى جنب مع القوات النظامية سبباً في زوال هيبة الدولة، كما إن إحساس المواطنين بهامشية وظيفة الحكومة وتنازلها عن اختصاصاتها يجعل شعور المواطنين نحوها سالباً، فالدولة في بعض الأطراف لا تقدم خدمة صحية لمواطنيها ولا تعليم ولا خدمات، المواطنون يدفعون ثمن علاجهم وتعليم أطفالهم، بل يحملون سلاحهم لا للدفاع عن أنفسهم فحسب، بل للتصدي لمواطنين آخرين خرجوا على الدولة، فتطالب الدولة بعض مواطنيها بأن يحمونها من آخرين.
في مثل هذه المناخات تشيع الحروب الأهلية وتتفشى النزاعات القلبية، ولكن بحكمة كالتي تحلت بها أجهزة الدولة حيال نزاع “جنوب كردفان” الأخير من شأنه كبح جماح الانفلات الذي تعاني منه “دارفور” وبعض من “كردفان”.