أخبار

استراحة (الجمعة)

{ أخذ الناس في السنوات الأخيرة يرددون بوعي أو يقظة ضمير أو يأس وقنوط من الحاضر (يا حليل “جعفر نميري”!!) وبعد أن شيعوه من سلطة امتدت لـ(16) عاماً باللعنات والهتافات من شاكلة (لن ترتاح يا سفاح)، ولكنهم اليوم ينصفون الرجل في قبره وقد مات “جعفر نميري” فقيراً لا يملك من زاد الدنيا شيئاً لا عمارات سامقة ولا أرصدة في البنوك الأجنبية.. وإذا كان لـ”جعفر نميري” الرئيس وجه.. فللرجل وجه إنساني آخر.. وقد سارت البوادي والقرى وسائقو اللواري السفرية بقصته الشهيرة مع الهمباتي “تيراب” الذي كان يمارس نهب الإبل إرضاءً لنزوته كفارس ورجل تهابه الرجال.. وعرف “تيراب” كشاعر فصيح (يدوبي) في هجعة الليل ويدغدغ مشاعر الرجال قبل النساء وتهفو إليه قلوب الحسناوات لشجاعته وفراسته والمرأة ضعيفة أمام الفرسان.
تم إلقاء القبض على الشاعر والهمباتي “تيراب” وزج به في غياهب السجن بمدينة “الدلنج” بعد أن نجحت دورية من الشرطة يقودها الصول “المندوب ميرغني” أحد فرسان أولاد غبوش وهي بطن من قبيلة (الحوازمة) اشتهرت بالفراسة والشجاعة، وتتغنى فتيات (البقارة) بـ”المندوب ميرغني” الذي قيل إنه يصارع الأفيال والأسود في منطقة “قردود أم ردمي” بالقرب من “تلودي”.. ثم رمي الهمباتي “تيراب” في سجن الدلنج وشعر بالوحشة والغربة.. وفراق أيام السهر في أحضان محبوبته وخليلته هي تستقبله حينما يعود من رحلات جلب الإبل من كل أصقاع كردفان للمنطقة الحدودية بين “دارفور” و”كردفان”.. وساء “تيراب” أن يبقى في السجن وغيره طليقاً.. فتغنى لمحبوبته “آمنة”:
لو شفينا يا “آمنة” من ظهراً كبير قام اليهود لتمامنا.. ما بنموت لو اليوم بقى ما يومنا ما بنفقد حتى سمحات القبيلة تسومنا..
يصف “تيراب” حراس السجن باليهود كناية عن فظاظة قلوبهم وقسوة تعاملهن مع أمثاله من ممن يصنفون كمجرمين خطرين وكيف أن تمام المساء يبدأ من بعد الظهر.. ولكنه بإيمان الصوفي ويقين المسلم يقول إنه لن يموت إلا إذا حل أجله ولن يهرب من السجن خشية أن تعلم محبوبته بهروبه وتقرر هجرانه ورفضه رغم إن بقاءه في السجن يعني نهاية حياته، حيث صدر حكم بإعدامه شنقاً حتى الموت بجرمة قتله لخمسة أشخاص.. وحينما سأله القاضي إن كانت لديه وصايا أو رسالة يريد إبلاغها لمن شاء قبل تنفيذ حكم الإعدام عليه.. نهض “تيراب” في مهابة النسر الكاسر والأسد الرابض والفهد الجامح.. وقال للقاضي: مثلي لا يستجدي أمثالك لأنك لا تستطيع أن تبلغ وصيتي لرجل بعيد عنك وعني.. ولو كنت أنت من الرجال الذين يبلغون رسالتي لـ”جعفر نميري” لما بقيت هناك تنفذ في قانون وضعه غيرك من الرجال.. شعر القاضي بإهانة شديدة ولكنه ماذا يفعل والرجل الذي أمامه غريق لا يخشى البلل ومفتول لا يهاب الجراح.. فقال له القاضي: ما هي رسالتك؟ فقال “تيراب”: شريط يتم تسليمه لـ”جعفر نميري”.
حمل الحامل الشريط الذي كان يتداول على نطاق واسع خاصة في البادية الكردفانية، وحينما أصغى “جعفر نميري” لذلك الشريط و”تيراب” (يدوي) قائلاً:
أخوي أبو عاج أبو كفة كم وكم رحم وكم أصلح رجال مختلفة..
وكم قطع رقاب خائنين وكم جعل الرجال في الدول داجين!!
أخوي أبو عاج عينك حمراء عندك رحمة للمسكين!! وتحدث “تيراب” عن أمنياته في الحياة قبل الرحيل قائلاً:
أنا سائل الله الكريم عقبال يفرج عني ونلقى مرادي في أبو رقبة المشية تتنى.. ويتذكر “تيراب” أن محبوبته هناك تنتظر أن يفرج الله غمه ويفك أسره ويصبح حراً طليقاً ويعود إليها بنعم الدنيا وزادها.
فيقول أنا سائل الله الكريم عقبال يفك ساجوري ومن ريق أم فلج يا مولى يبقى فطوري.. ويتمنى الرجل في سجنه أن يعود لجمله سريع الخطى الذي يمشي الهوينا.. وأن يجد محبوبته في كامل عافيتها.. وبهائها ونضارتها.. ولكنه فجأة يتمنى أن يطلق سراحه ويصبح (فقيراً) – أي (فكي) – وينشئ له مسيداً ويزوره الأحباب والمريدون.. وقيل والعهدة على الرواة وما أكثرهم إن “جعفر نميري” حينما أصغى للرجل وهو ينشد أبيات الدوبيت سأل عن الجريمة التي ارتكبها “تيراب” فقيل له إن الرجل قتل أربعة أشخاص.. وهنا قال “جعفر نميري” الفارس والإنسان الشجاع مثل هؤلاء الفرسان لا يقتلون.. يطلق سراح “تيراب” وتدفع حكومة السودان الدية تعويضاً لذوي القتلى.
وهذه الرواية لا يملك نفيها أو إثباتها إلا شيخ العرب الأستاذ “محمد أحمد الطاهر أبو كويش” الشاعر والأديب الذي أفسدت لسانه اللغة الإنجليزية وهو من كتب أيام صباه في أحد حسان كردفان..
البيت الجميل أوصافوا
الساكننو ما بتشافوا
لولا العزاب وربنا البنخافوا
نعبد بالسبح الديسو غطى أكتافوا
أطلق سراح “تيراب” وفك أسره وأصبح حراً طليقاً ولكنه قرر الاحتفاء والاحتفال بـ”جعفر نميري” بطريقته الخاصة كيف ذلك هذا ما نسعى لملامسته (الجمعة) المقبلة إن كان في العمر بقية.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية