تقارير

من شرفات المؤتمر العام

حديث السبت
يوسف عبد المنان

“البشير” يفتح أبواب تعديل الدستور لإصلاح الحكم الاتحادي
“الترابي” ما بين أشواق الإسلاميين في الوحدة ومصالح الحكومة الإقليمية والدولية
في خطابه، أول أمس (الخميس)، أمام المؤتمر العام لحزبه فتح الرئيس “عمر البشير” أبواب مراجعة الحكم الاتحادي وبعث برسالته إلى البرلمان في دورته الأخيرة من أجل تعديل الدستور.. تلك هي الخطوة المتوقعة والمطلوبة بشدة، خاصة وقد أصبح عجز النظام الفيدرالي الحالي عن تحقيق رغبات المواطنين وفقده لجدواه مسألة متفق عليها.. وقد فتح “البشير” أبواب المراجعة والاعتراف بسلبيات الأداء التي طغت على الفلسفة السياسية التي جاء من أجلها النظام الفيدرالي، وهي تقصير الظل الإداري وتفكيك الهيمنة المركزية على الأطراف وتلبية أشواق النخب في إشباع رغباتها في السلطة.. ولكن النظام الفيدرالي بواقعه الراهن أفسد ذمم الناس وأصبحت هناك طبقة من الحكام والمستفيدين من السلطة يمارسون نهب المال على قلته، ويفسدون في الأرض من أجل أن يبقى سادتهم الولاة في السلطة، وتوقفت تماماً أي مظاهر للتنمية في الولايات من مشروعات طرق وبناء مدارس ومستشفيات، وفرضت وزارة المالية قيودها على الولايات بعدم (تضمين) أية رسم على المنتجات الزراعية والمعادن مما جعل الولايات (متلقية) للمال من المركز، ويعسكر الولاة ووزراء المالية ينتظرون خزائن “بدر الدين محمود” لتجود عليهم بالفصل الأول والثاني.. حتى ولاية الخرطوم تنال حظها من الدعم المركزي شهرياً مثل ولاية الضعين (المأزومة) والشمالية والقضارف.. وفي سنوات الحكم الاتحادي الأولى كانت بعض الولايات مثل القضارف وجنوب دارفور تباهي بخروجها من دائرة الدعم الاتحادي وتعلن اعتمادها على نفسها.. واليوم أصبحت جنوب دارفور من أفقر ولايات السودان، والقضارف تعلن عن تمويل البنك الزراعي للمزارعين من أجل حفر (المطامير) لتخزين الغلال والسمسم.. نعم نحن لا نزال في عصر (المطامير)، وهي حفرة في باطن الأرض لتخزين الغلال وندعي بأننا دولة منتجة ومصدرة وأن صادراتنا بلغت مليارات من الدولارات، ومنتجاتنا الزراعية يتم تخزينها في حفر في باطن الأرض تسمى (المطامير) فأين (الصوامع) التي شيدت لتخزين الغلال؟؟ وهل للولايات دور في تطوير الزراعة؟؟ أم فقط يصرح وزراء الزراعة والمعتمدون في برنامج الإذاعة الصباحي عن المساحات الزراعية ونجاح الموسم الزراعي ويدعون لأنفسهم نجاحاً لا سهم لهم فيه!!
مراجعة الحكم الاتحادي لا ينبغي فيها فقط النظر إلى نصف الكوب الفارغ!! وتصويب المعالجات فقط في تعيين الرئيس للولاة بدلاً عن الانتخابات المشوهة التي تمنح المركز سلطة الاختيار من بين خمس قيادات يتم انتخابهم من مؤتمرات الحزب، وهي مؤتمرات لا تنقصها التشوهات حيث تعلو سلطة الشورى عملياً على سلطة المؤتمر العام كما يحدث في اختيار الحزب لمرشحه لمنصب الرئيس، حيث إن السلطة الحقيقية التي تختار مرشحي الحزب لمنصب الرئيس بيد المجلس القيادي ومجلس الشورى الذي يقدم مرشحاً واحداً للمؤتمر العام لاعتماده فقط، ولا خيار لأعضاء المؤتمر العام البالغ عددهم (6) آلاف رجل وامرأة جاءوا من الأطراف النائية والأصقاع البعيدة.. ولا تعدو سلطتهم أن يقولوا نعم لاختيارات غيرهم.. وفي الولايات يختار مجلس الشورى سبعة مرشحين ويقدمهم للمؤتمر العام في الولاية الذي كل دوره أن يبعد اثنين فقط من السبعة ويصبح أمام المركز خمسة خيارات.. حتى هذه الخيارات قد لا ترضي المركز.. والديمقراطية الحقيقية أن ينتخب الحزب مرشحه لمنصب الوالي دون تدخل من أية جهة.. ويذهب مباشرة إلى صناديق الاقتراع فيفوز بإرادة الجماهير ويشكل حكومته بما يمليه عليه ضميره ويراقبه حزبه والمجلس التشريعي في ولايته.. لكن إذا كان الرئيس وآلياته هي التي تفحص سيرة المرشحين من الحزب بالولايات وتختار من تعتقد أنه الأصلح لحكم الولاية، وقد تأتي بمن حصل على أدنى الأصوات وجاء ضمن المرشحين الخمسة كـ(تمومة جرتق).. ثم يصبح هذا الوالي أداة طيعة في يد المركز يحمل كراسة أسماء وزراء حكومته والمعتمدين، وحتى مدير مكتبه ويأتي إلى الخرطوم التي تتقمص في هذه الحالة شخصية الأستاذ الذي يجلس خلف طاولته ويأتي التلميذ (الوالي) حاملاً كراسته لتصحيحها، يشطب أسماء بعض المرشحين ويضيف إليه المركز بعض المفصولين عن طريق الخطأ من الخدمة المدنية أو العسكرية، أو يقدمون إليه بعض الأسماء من المحظيين بالرعاية المركزية وأبناء (المصارين البيض) ليتم تعيينهم في حكومته!! وحتى لا تشوه الفيدرالية، وريثما تبلغ بلادنا مرحلة توافق أحزابها المعارضة والمنتظرة في الرصيف الاتفاق على دستور جديد، فإن الولايات بصورتها الراهنة يجب مراجعتها بتقليصها وإدماج بعضها في ولاية واحدة، وأن يصبح للرئيس الحق في تعيين الولاة والوزراء والمعتمدين حتى تنقضي الفترة الانتقالية الحالية، ويتمخض الحوار الوطني عن وثيقة اتفاق سياسي ترسم خطى المستقبل ويتم التوصل لاتفاق مع القوى التي تحمل السلاح لتضع الحرب أوزارها، وتعود لبلادنا الطمأنينة.. وحتى ذلك الحين فالدستور الانتقالي ليس بقرة مقدسة لا يجوز ذبحها في قارعة الطريق، ولا هو المثال والكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. وقد أثبتت التجربة أن في الدستور الحالي ثغرات، وباتت مصلحة البلاد الآن في تعديل هذا الدستور مؤقتاً.. وينصرف البرلمان إلى سبيله، ويأتي البرلمان القادم في مايو 2015م لوضع دستور للبلاد متفق عليه من أغلبية القوى السياسية الفاعلة.
{ د. “الترابي” والأشواق المتبادلة
عندما صعد الدكتور “حسن الترابي” الأمين العام لحزب المؤتمر الشعبي لمنصة مخاطبة المؤتمر العام للمؤتمر الوطني بعد قطيعة وجفاء وخصومة وتنازع بلغ حد السجون وإراقة الدماء.. هتف بعض الإسلاميين جهراً أمام قادتهم الذين نزعوا من “الترابي” السلطة، وأصغى المؤتمرون لما يقوله الشيخ “الترابي” وهو في كامل عافيته البدنية والنفسية ليطلق ضحكته المعهودة ويقول: (كثيرون ممن هم هنا أعرفهم)!! فارتسمت علامات الرضا في الوجوه بأن حقبة التنازع والصراع ومحاولة كل طرف إقصاء الآخر وتغييبه من المسرح السياسي قد انتهت للفشل، وعادت العقلانية والتسامح من أجل الحوار الوطني.. و”الترابي” شخصية تحظى باحترام واسع في العالم بأسره، حتى ألد خصومه من العلمانيين واليساريين يعترفون له بغزارة العلم والذكاء ونقاء البصيرة.. وقد أقبل “الترابي” ورهطه من حزب المؤتمر الشعبي على دعوة الرئيس “البشير” للحوار أكثر من إقبال الوطني صاحب الدعوة نفسه، وقد قال “الترابي” أمام المؤتمر العام للوطني، أول أمس (الخميس)، إن هناك أسباباً ودواعي تجعله يقبل على دعوة “البشير” وحددها في الاستهداف الذي تتعرض له البلاد!! نعم هناك مخطط كبير لإقصاء التيار الإسلامي من الوجود في السودان مثلما تم إقصاؤه من مصر وإزاحته من اليمن.. ويسعى “خليفة حفتر” ليصبح “قذافي” جديداً في ليبيا.. كل ذلك بدعم خليجي وعربي ومصري.. والتقارب الذي يحدث الآن بين الإسلاميين في السودان واقتراب “الترابي” من (أخوة الأمس) وتلاميذه الذين أصبحوا أساتذة في السياسة لن يبلغ حد وحدة الصف الإسلامي لمقتضيات ظرفية تعيشها المنطقة.. وترتيب علاقات السودان مع جيرانه خاصة مصر والسعودية أولى مطلوباته أن لا يرتدي النظام في السودان عباءة الإسلام السياسي.. وظهور “الترابي” على المسرح سيثير شكوك تلك الدول التي تقدمت خطوة نحو الخرطوم.. الشيء الذي يجعل معادلة الداخل تتقاطع مع معادلة الخارج، فالدكتور “الترابي” وحزبه يستطيع لعب دور محوري في حل قضية دارفور لعلاقته ببعض أطراف القضية مثل حركة العدل والمساواة وحركة “مناوي”، ودخول هذه الفصائل في اللعبة السياسية الداخلية من شأنه تخفيف حدة الصراع في دارفور، لكن “الترابي” ينظر إليه من جهة حركات مسلحة مثل الحركة الشعبية قطاع الشمال وحركة “عبد الواحد محمد نور” ذات العلاقة الوثيقة بالحزب الشيوعي، ينظر إليه بأنه الأب الروحي للإسلاميين، وعودة “الترابي” إلى مسرح قريب من السلطة يباعد بين هذه الحركات والمؤتمر الوطني الذي هو الآخر تقتضي مصالح البلاد أن يمضي في ترتيب وتوفيق الأوضاع مع مشيخات الخليج ومع مصر والولايات المتحدة الأمريكية دون أن يفقد في ذات الوقت مرجعيته الإسلامية والفكرية، وقد حاولت جهات غربية وإقليمية ودولية إغراء “البشير” بكل نعيم الدنيا من رفع العقوبات الاقتصادية ووقف الحرب مقابل أن ينكص على عقبيه ويخلع انتماءه الأصيل للحركة الإسلامية ويضع رهانه على المؤسسة العسكرية وحدها.. ولكن “البشير” الذي حينما خاض معركة الانفصال مع “الترابي” أقسم بالله الواحد الأحد إنه ظل وفياً لتنظيم الحركة الإسلامية منذ المدارس الثانوية.. واستطاع أن يخوض معركته وسط الإسلاميين، فوقف إلى جانبه الشباب والطلاب والشيوخ والعسكريون، واستثمر في نفوذ “علي عثمان محمد طه” حتى وجد “الترابي” نفسه بلا رصيد وسط الإسلاميين.. واليوم تتوق أشواق التيار الإسلامي للوحدة والتلاقي بعد طول جفاء، وبعد مسافات وخصام ومنازعات.. لكن مقتضيات مصالح الدولة تجعل هذا التقارب بعيداً والتعايش ممكناً وفضاء الحرية لـ”الترابي” وغيره هو أقصى ما يستطيع المؤتمر الوطني دفعه ثمناً لوحدة الصف الداخلي!!
و”الترابي” الذي قرر المضي قدماً في خطوات المصالحة هو من دخل في نزاع بلغ حد المواجهة العسكرية مع الرئيس الأسبق “جعفر نميري”، لكنه حينما أقبل عليه مصالحاً بصدق ووفاء بالعهد منح النظام المايوي عمراً إضافياً وجعله يتنفس طبيعياً من عام 1977م وحتى 1985م، وبعد انقلاب “النميري” على “الترابي” لم يكتب لنظامه العافية حتى سقط.. وتقارب “البشير” و”الترابي” وانقشاع حقبة الحرب الساخنة بينهما ستمد المؤتمر الوطني وحكومته بطاقة جديدة وعمراً مديداً، خاصة إذا أفلح الترابي في إقناع حاملي السلاح من بعض الحركات الدارفورية للتصالح مع المؤتمر الوطني.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية