خماس حلاب
مصادفة ورب صدفة خير من ألف ميعاد وتنويه استمعت عبر الإذاعة السودانية (أم درمان) إلى تقرير من غرب كردفان عن منطقة اسمها (خماس حلاب)، لم أزرها وإن كنت اعتقد أنها على نواحي منطقة النهود، التقرير استعرض عملاً طوعياً وشعبياً من أبناء تلكم الأنحاء بالخارج، إذ اجتمعوا وطوروا نفيراً خاصاً جمعوا به (ثلاثمئة مليون جنيه) لصالح المركز الصحي أو المشفى المحلي، وجمعوا (مئتي مليون جنيه) من أجل خدمات التعليم وهي أموال دفعت (كاش) وقدمت عداً ونقداً، ولمزيد من الاستقرار للخدمات الصحية التزم أبناء (خماس حلاب) بالخارج بدفع راتب الطبيب العمومي في المركز الصحي، وحددوا مبلغ (ثمانية آلاف جنيه) راتباً شهرياً يرسل للطبيب من الخارج (صرة في خيط)، وقد أشفقت والله على ممثل والي ولاية غرب كردفان في الاحتفال، إذ تبرع بألف جنيه (فقط) ولو كنت مكانه لاكتفيت بشكر الحاضرين ونزلت عن المنصة !
لا أعرف تلكم المنطقة إلا من باب المواطنة وأنهم جزء من نسيج بلادي، وهذه إشارة مهمة حتى لا يظنن أحد أن شهادتنا دعاية، وأقسم بالله لا أعرف أحداً من المنطقة حتى، ولكن ما فعله أولئك الرجال عمل حقيق بالاحتفاء والإكبار، ومسلك يعيد الريادة والفعل الإيجابي للمجتمعات المحلية، والشاهد أن منطقة في هذا السودان ستتخلى الآن عن عون الحكومة وطلب السلطة وقد قام أهلها بحر مالهم إلى تطوير خدمات الصحة والتعلي، وهما عماد الاستقرار والرخاء ولن يكون الناس هناك في انتظار صدقات وزارة الصحة الولائية أو إكراميات وزارة التربية إلا بالقدر اليسير المرتبط بالجوانب الإدارية، ولكن أصل الخدمات سيكون متوفراً وفق بيئة مناسبة ومميزة وبأموال دفعها الشرفاء من رواتبهم بالمهاجر لصالح الغبش الطيبين في تلكم المنطقة الطيبة المباركة ببر أبنائها المغتربين.
إن هذه المبادرة تستحق الاهتمام والتوثيق والتقديم لتكون عملاً مميزاً ومسلكاً ليت كل الفرقان والقرى والمدن تقوم بمثله أو عملاً قريباً منه، كان يمكن للأهل في (خماس حلاب) لعن ظلام تردي خدمات التعليم والصحة وغيرها ونثر التضجرات في مجالس الرأي العام، وكان يمكن للمتبرعين بالأموال قبض أموالهم عليهم وبذلها لصالح أسرهم، ولكنهم فضلوا ما هو خير وأبقى وقدموا مصلحة الجماعة على مصالحهم الخاصة، وهو قدر من الإيثار جد محترم ونبيل وهو سلوك ينم عن إحساس رفيع بالكل، وشكل من أشكال الوطنية المبهرة الخالية من الصناعة والانتهازية وحب الذات الفانية، وما أحوجنا في الوطن كله لمثل هذه الروح الصافية والمبادرات الكبيرة اللافتة فما أضر بنا إلا جلسونا إلى حالة من الانغلاق الضار، مفاهيم الحرص على الكسب للنفس وتراخي الإحساس بالجماعة.
أردت بهذا الحديث إثبات شهادة حق لصالح سودانيين لا نعرفهم، لكن الله عرفهم ووطنهم الصغير والكبير، وقاموا بمبادرة مجتمعية لافتة والتحية لكل أهل (خماس حلاب) ..أحسنتم.