أسرار وخفايا من قصر الأمم (1)
هل أخفقت أمريكا أم نجح السودان في المعركة الناعمة
الأسباب التي أدت لإبعاد “إدوارد توماس” من مهمة الخبير المستقل
جنيف – يوسف عبد المنان
انفضت اجتماعات الدورة (27) لمجلس حقوق الإنسان في “جنيف” وتم الإبقاء على السودان في البند العاشر كما توقعت (المجهر)، من خلال متابعتها لأعمال الدورة في “جنيف” والتي لم تقتصر على ظاهر السطح السياسي وما يجري في قاعات وقصر الأمم المفتوحة في وسط “جنيف”، ولكن للحقيقة وجه آخر!! حيث جرت في الغرفة المغلقة الصماء التي لا تسمع حوائطها ولا يراها كثير من المراقبين، جرت تفاهمات بين الوفد السوداني الرفيع المستوى وبين الأمريكان والاتحاد الأوروبي وهما الكتلتان الرئيسيتان والأكثر فاعلية في ملف حقوق الإنسان، وأثمرت تلك التفاهمات عن حصاد بين أيدي السودانيين اليوم.. البقاء في البند العاشر مع اختصاصات للخبير المستقل تضعه ما بين البندين العاشر والرابع.. أي أن الخبير القادم سيمارس نشاطاً في بلادنا أقرب للمراقبة.. منه لتقديم المساعدات الفنية وهي المهمة (التقليدية) لأي خبير مستقل يتم إعتماده لأية بلدٍ في العالم خاصة للإجراءات الخاصة.. ولكن مجلس حقوق الإنسان في بعض الحالات هو من يحدد مهام واختصاصات للخبير المستقل قد تشمل ما هو وارد في البند الرابع أو الثاني حسب تقدير حالة الدولة وما يجري فيها من انتهاكات.. في سلسلة مقالات نعتزم نشرها عن الدورة (27) لمجلس حقوق الإنسان نضع أمام القارئ ما نعتقد أنه جزء من حقيقة ما جرى فالحقيقة كاملة شيء فوق إدراك البشر، ومهما سعى الصحافي ولهث فإن حصيلة جهده يبقى محدوداً ولا يحيط بكل شيء خاصة في قضية بالغة التعقيد كقضية حقوق الإنسان.
{ خلف المشهد:
إذا كانت قضايا الإنسان من أكثر القضايا التي تثار بشفافية وفي ضوء الشمس فإن هناك تفاهمات حول قضية حقوق الإنسان تجري في الغرف الصماء وخلف الحجب، وحينما وضع الخبير المستقل “مشهود بدرين” والذي يتجنى عليه بعض السودانيين ويحرفون اسمه إلى “مسعود” تقريره على الشبكة العنكبوتية، وبات متاحاً للدارسين والمشتغلين بقضايا حقوق الإنسان.. ثم أعقب ذلك التقرير الذي أصدرته المجموعة الأوروبية عن حالة حقوق الإنسان في السودان وتقرير الولايات المتحدة وحلفائها، أدرك الكثيرون يقيناً أن السودان لن يبقى في البند العاشر وسيعود القهقري لسنوات مضت، حينما كان خاضعاً للرقابة المباشرة طوال الفترة من 1993م وحتى أكتوبر 2005م. وفي هذه الحقبة تناوب على مراقبة حقوق الإنسان خمسة مقررين من مختلف الجنسيات والأعراف والأديان بدءًا من “الهنغاري “كاسبار بيرو” أول مقرر لحقوق الإنسان في السودان عين عام 1993م، وظل يكتب حتى أكتوبر 1998م، يكتب التقارير عن أوضاعنا بموجب البند الرابع، وكانت حينها حقوق الإنسان تحت العباءة المباشرة والاختصاص العام للأمم المتحدة قبل إنشاء المجلس الحالي، وأعقب “كاسبار بيرو” الأرجنتيني “ليونارد فرانكو” الذي بقي في المهمة لمدة عامين.. ليعقبه الغاني “أكويل أدو” في الفترة من 2004م، وحتى 2005م، لتأتي الأفغانية “سيما سمر” كآخر مقرر خاص انتهت ولايتها في عام 2009م، وحينها تحسنت صورة السودان خارجياً بفضل اتفاقية السلام ليبقى السودان تحت الإجراءات الخاصة، ولكن بتعيين خبير مستقل مهمته تقديم المساعدات الفنية لتطوير حالة حقوق الإنسان، وعين التنزاني المسلم “محمد عثمان تشاندي” في عام 2009م، ولكنه ما لبث أن تقدم باستقالته في مارس 2012م، ليعين الخبير الأخير “مشهود بدرين” والذي عندما سألته هل أنت “مسعود” أم (مشهود)؟؟ فقال لي ألم تقرأ القرآن عن (شاهد ومشهود).. ضحك وقال أنا ألتزم الطريقة التجانية ومن وقت لآخر أزور ضريح سيدي الشيخ “أحمد التجاني” في مدينة “فاس” المغربية، ولكن السودان ومرض زوجتي قد شغلني عن زيارة ضريح شيخي!!
بدأت المناخات في “جنيف” ملبدة بغيوم مطر سبتمبر.. وتقارير المنظمات الطوعية من أمنستي (انترناشونال) إلى منظمة القرن الأفريقي.. ومنظمة أطفال أفريقيا وأطباء بلا حدود.. كلها تنتقد التراجع الكبير في حقوق الإنسان بالسودان. وهناك خمس قضايا شكلت القاسم المشترك بين كل تقارير المنظمات الغربية والمجموعتين الأمريكية والأوروبية والقضايا الخمس إن شئت الدقة، فالأحداث الأربعة هي (1) أحداث سبتمبر العام الماضي ووقوع عدد (85) من الضحايا حسب تقديرات الحكومة في بيانها الرسمي في “جنيف” و(200) حسب تقديرات الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، واتفقت كل البيانات على ضرورة تشكيل لجنة تقصي حقائق وطنية يشرف عليها الاتحاد الأفريقي.. القضية الثانية قضية “أبرار” والثالثة الاعتقالات التي طالت بعض السياسيين “إبراهيم الشيخ” و”الصادق المهدي” والرقابة على الصحف ومصادرتها وإيقاف بعض الصحافيين عن الكتابة.
وأخيراً وقف نشاط الصليب الدولي.. وقد ردت الحكومة على أحداث سبتمبر أن التحقيق لا يزال جارياً في القضية وحينما يكتمل ستقرر الجهات العدلية ما إذا كان هناك متهمون سيتم تقديمهم للقضاء أم لا؟؟
وفي قضية المعتقلين قالت في بيانها الرسمي يوم 24/9 إن جميع المعتقلين تم الإفراج عنهم.. وتم إيقاف الرقابة على الصحف ومصادرتها ولا يوجد كاتب صحافي محظور عن ممارسة مهنته اليوم.. ولكن قبل أن يصل السودان إلى يوم تقديم البيان الشفاهي فتحت بعثة السودان الدائمة في “جنيف” أبواب حوار خلف الأبواب المغلقة اعتمد على مبدأ التهديد، برفض التعاون مع مجلس حقوق الإنسان ولوح الوفد المفاوض بالذهاب للتصويت المباشر في حال الوصول لطريق مسدود، بشأن التفاهم الثنائي قبل الجلسة الإجرائية يوم 25 سبتمبر.
ودفعت الحكومة بوفد كبير من المستشارين والخبراء الحقوقيين يقوده وكيل وزارة العدل “عصام الدين عبد القادر” قبل أن تؤول قيادة التفاوض إلى الوزير “محمد بشارة دوسة” في المرحلة الحاسمة، حيث ضم الوفد خبرات في التفاوض الدبلوماسي كالسفير السوداني في “واشنطون” “دفع الله الحاج” مندوب السودان في مجلس الأمن الدولي، والسفير “حمزة” الذي عمل سنوات في “جنيف” ويختزن خبرة عريضة وعلاقات هناك. ومن وزارة العدل د.”معاذ تنقو” الخبير في القانون الدولي وممثلين لجهاز الأمن والمخابرات وممثل للقوات المسلحة.. ومولانا “ياسر أحمد محمد” مدعي جرائم دارفور، ووكيل نيابة أمن الدولة.. إضافة للسفيرة “رحمة العبيد”.. وعقدت لقاءات سرية بين الوفد السوداني والأمريكي وامتدت بعضها لأكثر من (4) ساعات في جنح الليل وآناء النهار وفي تلك المفاوضات هدد السودان بعض الأحيان (بالمروق) نهائياً عن أي قرار لم يتفق مع ما يؤمن به.
وكان الأمريكان أكثر مرونة من الأوروبيين وأكثر حرصاً على تعاون الخرطوم مع مجلس حقوق الإنسان والوصول لصيغة تفاهم بشأن القرار دون اللجوء إلى التصويت، في وقت يدرك فيه السودان أن التصويت في غير صالحه بل وقد يكشف العزلة التي يعيشها، فالأوروبيون جميعاً يقفون في مواجهته ومعهم الولايات المتحدة وكندا وأستراليا من القارة الصفراء.. ويقف إلى جانب السودان روسيا والصين وكوبا.. وقطر وبعض الدول الأفريقية مثل إثيوبيا، واقتضت المصالح المصرية أن تدعم القاهرة موقف السودان وعينها على صراعها مع إثيوبيا حول المياه.. وهي أي القاهرة تشاهد صورتها في مرآة قصر الأمم وهي تقف عارية من أي ثوب يستر عورة أحداث ميدان رابعة العدوية، فاختارت الوقوف إلى جانب السودان تحسباً ليوم كريهة قادم لا محالة في ذلك!! وجرت مفاوضات وتفاهمات مع المجموعة الأوروبية إلا أن أوروبا الموحدة قد حصنت نفسها بتكتل جماعي، واتخذ البرلمان الأوروبي الموحد قراراً قبل بدء اجتماعات مجلس حقوق الإنسان بإدانة سلوك الحكومة السودانية، وطالب بإنزال عقوبات في حقها.. وشكل ذلك الموقف عقبة كؤوداً في التفاهم بين الأوروبيين والوفد السوداني.. ولكن الولايات المتحدة أصبحت هي التي تقود أوروبا في المحافل الدولية، لذلك فتح باب التفاهم بين الولايات المتحدة والسودان أبواب حل وسطي يقضي بالإبقاء على السودان تحت البند العاشر، على أن يلتزم السودان بتحسين سجل حقوقه خلال الفترة القادمة.. وما بين “جنيف” و”الخرطوم” جرت التفاهمات التي انتهت لتغيير لهجة الخبير المستقل “مشهود بدرين” في خطابه الشفاهي الأخير، قبل أن يتصافحا مع السيد “محمد بشارة دوسة” بعد طول اختلاف وقطيعة امتدت حتى اليوم ما قبل إلقاء خطبته الوداعية، حيث كان من المقرر أن يلتقي الوزير بالمبعوث “بدرين” والاتفاق على صيغة تفاهم بعد التفاهم مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، إلا أن “دوسة” عمد على أن يبعث بالوكيل “عصام عبد القادر” نيابة عنه للقاء “بدرين” في قصر الأمم، وكان “عصام” قد حزم حقائبه ليعود للخرطوم ولكن مقتضيات الحوار أبقت عليه حتى اليوم الأخير.
{ حوار في دكان بـ”جنيف”:
أثناء طواف المجموعة الوطنية في إحدى (مولات) “جنيف” تصادف وجود المجموعة مع المبعوث “مشهود بدرين” وهو (يتسوق) في (المول)، وفجأة بدأ العناق بين الأفارفة السود في بلاد (البيض) وسط ذهول المراقبين للمشهد.. ووقف “مشهود بدرين” بين الخبير في فض النزاعات الدولية د.”حسين كرشوم” عضو وفد المجموعة الوطنية و”هنادي حسين” التي خاطبت باسم المرأة السودانية والمنظمات غير الحكومية جلسة الحوار التفاعلي حول السودان لتكتب اسمها في قصر حديقة الأمم بجنيف.. وأخذ د.”حسين كرشوم” الذي خاطب هو الآخر مجلس حقوق الإنسان.. يعاتب البروفيسور “مشهود بدرين” على تقريره الذي كتبه عن الوضع في السودان وتحفظات السودانيين عليه.. وانضم إلى حديث د.”حسين” و”هنادي” والخبير المستقل “بدرين” اللواء د.بابكر محمد توم” الذي قدم مرافعة عن السودان والآثار السالبة للحصار الأمريكي حتى أدهش الوفد السوداني قبل الأجانب، عن حجم السلبيات التي نجمت عن المقاطعة الأمريكية. وكادت “حليمة حسب الله” عضو المجموعة الوطنية والناشطة الدارفورية أن تقول (هو نحن متأثرين بالحصار الأمريكي لهذا القدر) تأثر “مشهود بدرين” الإنسان بحديث أعضاء المجموعة الوطنية وكاد أن يعترف بالضغوط التي حملته لكتابة تقريره الذي (طارت) به الأسافير، ولكنه قال خيراً سأقول شهادتي عن بعض ما تم إثارته هنا يوم غدٍ في خطابي الشفاهي!!
{ لماذا رفض السودان “إدوارد”!!
قبل أن يتخذ مجلس حقوق الإنسان قراراً بشأن وضعية السودان.. هل يبقى في البند العاشر أم يذهب إلى البند الرابع أم يتم رفع اسمه من قائمة الدول التي تخضع للإجراءات الخاصة، كما طالب بذلك السيد وزير العدل في خطابه. بدأ مجلس حقوق الإنسان الذي يرأسه الأردني “زيد الحسين” إجراءات تعيين الخبير المستقل بعد استقالة “مشهود بدرين”.. وفتحت أبواب التوظيف لمن هم محل ثقة الأوروبيين والأمريكان، ولكن بالاتفاق السودان والمجموعات الرئيسية يتم تعيين الخبير المستقل باتفاق مع حكومة السودان والتي رفضت في البدء تعيين خبير مغربي في القانون الدولي، وطعنت إجرائياً في تعيين خبير قبل إنهاء مهمة الخبير الحالي، وقبل النظر في طلبها برفع ولاية الخبير المستقل والخبير المغربي الذي تم ترشيحه وهو من دعاة خضوع رؤساء الحكومات لأوامر المحكمة الجنائية وله آراء في ضرورة أن يسلم “البشير” نفسه للمحكمة الجنائية.. وترددت أسماء أخرى حتى دفع الأوروبيون بـ”توماس إدوارد” الايرلندي المثير للجدل.. فالرجل العجوز نال دراسات في الشريعة الإسلامية أهلته لتحضير درجة الدكتوراه في الطرق الصوفية.. ولكنه في مذهبه وطرق تفكيره أقرب للجمهوريين، حيث تأثر كثيراً بكتب “محمود محمد طه” التي ترجمت إلى اللغة الإنجليزية.. وحينما كان “توماس إدوارد” في السودان ضمن بعثة (اليونميس) في جنوب السودان بعد اتفاقية السلام، بدأت علاقته متوترة مع الحكومة السودانية بسبب بعض الآراء التي كتبها في مدونته الشخصية، حيث ادعى أن منطقة كافية قنجي.. تتبع إلى جنوب السودان وليس شماله، وقد تم طرده من السودان بسبب تلك الآراء وبعد استقلال جنوب السودان عاد إلى “جوبا” وعمل مستشاراً لحكومتها لفترة قصيرة.. وقدرت الحكومة السودانية أن تاريخ الرجل لا يؤهله مطلقاً للقيام بدور الخبير المستقل.. وسجل السودان اعتراضه على “توماس” كتابة إلى مجلس حقوق الإنسان.. وحتى أمس(الأحد) ترددت معلومات عن عودة “مشهود بدرين” مرة أخرى إلا أن مجلس حقوق الإنسان اشترط أن يكتب “بدرين” إلى المجلس عدم ممانعة وإقرار بالتراجع عن الاستقالة التي تقدم بها إلى المجلس بسبب ظروف مرض زوجته وهي لم تشفَ بعد، ولكن بدا واضحاً أن “بدرين” تأثر كثيراً بالنقد الشديد الذي وجه إليه من جهة الحكومة السودانية، واختار الاستقالة خوفاً على تشويه تاريخه.. عطفاً على الضغوط الكثيفة التي تعرض لها في الأيام الأخيرة.
نواصل..