"حفتر" والحركات المسلحة
في بادية كردفان وحينما هاجرت مجاميع الشباب والصبيان إلى (ليبيا) المجاورة، تفتق الوعي الشعبي على لسان منشدة شابة بإيقاع الجراري عن أغنية شعبية شهيرة: (الغربة إن شاء الله تعقري ياتعدمي المال الفقري يا تعدمي الشيك الخضري ، والله شلتي العيال من بدري). والأغنية شهيرة ومعروفة تتوزع وتتقطع بتنغيم جميل، وفيما بعد حينما تلقفها المغنون والمعالجون للغناء الشعبي، حذف المؤدون المغنون (ليبيا) التي كانت معنية بالدعاء و(التدعي) بانعدام المال و(الشيك الخضري) الذي أردى آمال الصبايا في الأحباب أزواجاً وإخوة.
لم يكن الخاطر الرسمي والشعبي حتى في الأدب ميالاً لجرح الجارة ليبيا، فصارت الأغنية الشعبية مقيدة ضد مجهول، لكنها ظلت في واقع الأمر تحكي مرارة السودانيين حيناً من الدهر مع جارة أخذت أشجانهم حينها ولكنها ظلت بلداً جاراً ينظر إليه السودانيون بتقدير وحسن ظن، وإن ساءت تصرفات بعض الأنظمة التي حكمت هناك. والحقيقة أن الشعب الليبي كذلك ظل وفياً لذاك التقدير خاصة في ظل ظروف المحنة الحالية التي تمر بها الجارة العزيزة، من إشكالات وأزمات أقبح ما فيها أن أعداء الشعبين هم من يسعون بالفتنة والتي يحمد للسودان فيها، أنه ظل محايداً فيها حريصاً على استدامة السلام واستقرار الوضع، وأن يكون الخيار الوطني الخالص مسألة تخص الليبيين وحدهم، هم من يقررون وهم من يرون ولهذا ظلت الخرطوم راعية للصلاح والتصالح، وحتى مؤتمر جوار ليبيا الذي عقد بالقاهرة مؤخراً كان فكرة سودانية خالصة نفذت وذهب صيت شكرها وحمدها لآخرين !
إن بعض الدوائر الشريرة وبعض البنادق المأجورة في المنطقة تسعى لإشعال فتنة عظيمة، ومسلك اللواء المتمرد “حفتر” الساعي لاستقطاب عضلات ونيران الحركات الدارفورية المسلحة اتجاه خطير، سيصب مزيداً من الزيت على نيران تتسع. وما تواتر من أنباء موثقة عن لقاءات بين “حفتر” وممثلين لحركات تمرد دارفورية تطور مؤذي من تلك الحركات واستمرار منها في سياسة ارتكاب الحماقات، فمن قبل تورطت العدل والمساواة في الصراع الدائر بين حكومة العقيد “القذافي” والثائرين عليه، وتنشط الآن أكثر من حركة تمرد سودانية في حروب جنوب السودان. وكلها بالإجمال تصرفات ومغامرات لن تكسب القضية السودانية إلا لعنات أرواح إضافية، تزهق من أجل الأموال والإمداد بالأسلحة، باعتبار أنها بنادق وثورات للإيجار كلما سمعت هيعة طارت إليها تعرض أعمالها وجندها كمرتزقة !
إن النشاط السالب لحركات التمرد السودانية بالتدخل في النزاعات الداخلية لبعض دول الجوار، سيجلب متاعب جمة لعموم السودانيين غير المسيسين أو الذين تضعهم شواغل طلب الرزق للسفر والغربة، إذ سيصنفون وكأنهم امتداد لتلك الحركات، وحينها قد تتعرض الجاليات السودانية في ليبيا وغيرها إلى متاعب وأذى لم يكن ليقع، لو أن تلك الحركات تحلت بروح المسؤولية وتجنبت أن تزج راياتها في كل معركة وعراك ينشب.