الديوان

تصوفهم شكَّل وجدانهم وظهر في نسيج إبداعاتهم

مبدعون عاشقون للصالحين
المجهر _ آيات مبارك
لاشك أن الموسيقى السودانية تمتاز بتنوعها الخلاق والخاطف للأذان ربما يعود ذلك نظراً لتعدد الثقافات والبيئة الموحية.. لكن إذا عدنا لوجدنا أن معظم الأغنيات والأشعار قد كان للصوفية الأثر البالغ في تحريك مسارها الغنائي في السودان من خلال الكلمات ومن ثم الألحان، وذلك لبالغ التأثير الذي يبدأ من الخلوة والتعليم الديني،  وهنالك الكثير من الشواهد التي تؤكد أن الصوفية وأدبياتها متجذرة في المجتمع، ويظهر ذلك جلياً في ارتباط السودانيين برجال الدين منذ القرن الثامن عشر مروراً بالفترة السنارية ومنها تشكلت الثقافة الديني، فقد أنبرى رجال العلم والتصوف في (مملكة الفونج) و(الدولة السنارية) بواجب الدعوة للإسلام، لذلك ترجم الأدب الصوفي إلى تعاليم شملت جميع مناحي حياة الأفراد إبتداءً من الدور الأسري ثم التعليمي انتهاءً بالعاطفي وعلاقة الرجل بالمرأة ثم ظهر جلياً في التعليم والأغنيات والأشعار، فقد كان للشعراء والمطربين وليدي البيئة الصوفية القدح المعلى في مسار الشعر الغنائي الرصين، وبإمكاننا الحديث جازمين بأن أبرز شعراء الأغنية السودانية هم خريجو الخلاوى والمعاهد الدينية أو هم أحد أبناء البيوت أو تتلمذوا على يدي أحد المشايخ. والارتباط العميق عند البسطاء بالمتصوفة من رجال الدين جعل الكثير من المريدين وخصوصاً العاشقين الذين لا يألون جهداً في الوصال.. جعلهم دائماً ما يتوسلون لمحبيهم
عبر مخاطبة الأولياء الصالحين إنتظاراً لكراماتهم.
أغنيات ومدائح
وهناك العديد من الشعراء الذين أسهموا إسهاماً كبيراً في (المديح النبوي) أمثال الشاعر”أبو صلاح” الذي نظم ما يقارب الخمسون مدحة نبوية، بالإضافة إلى الشعراء “سيد عبد العزيز”، “عبد الرحمن الريح” وغيرهم.
لكن عندما تذكر العبقرية والسحر بالطبع سيتجلى لنا الشاعر “خليل فرح أفندي” الذي قد تبدى الأثر الصوفي في كثير من أغنياته، فقد أنشد  قائلاً في أغنيته (يا جميل يا نور الشقايق):
في يمين النيل حيث سابق             كنا فوق أعراف السوابق
في الضريح الفاح طيبو عابق        السلام يا المهدي الإمام
أما شيخ الشعراء “محمد ود الرضي” أصدر أحكاماً في إحدى أغنياته وقال في أغنية (أحرموني ولا تحرموني.. سنة الإسلام السلام) وفي أحد أبياتها:
قل لي كيف تستوجب لي حمداً     
من تعاطى المكروه عمداً
غير شك يتعاطى الحرام
أغاني البنات ومناجاة الصالحين
وأسهبت المغنية في العريس إطراءً عندما قالت: (ود الأولياء الصالحين يا العريس متيلك وين).. وتلك الفتاة التي تلح على أمها كل يوم لزيارة الشيوخ حتى تقضي لها أمرها لتوقف من موجات القلق قائلة: (يا يُمة زوري لي زيارة السبوع الأخدر المربوع الضوا ليلي شموع.. يا يُمة زوري لي زيارة الإثنين يجينا نور العين ويفرحو القلبين..  إلى أن تنتهي بيوم الجمعة (يا يمة زوري لي زيارة الجمعة.. والله مقتنعة.. والله مقتنعين لو كان في أوضة طين)… وهذه لم تجد حلاً سوى نديهة جميع الشيوخ حتى تجد حبيبها الغائب (أهلي يا الصالحين يا رجال الدين.. أرفعوا الفاتحة وأقروا لي ياسين… كان حبيبي يبين… تبسم الدنيا… ولي تنوم العين)، وأشهرهم على مستوى نداء الفتيات هو (أب شرا بالضرا إن شاء الله راجل مرة يا أب شرا)، وقد كان «سيدي الحسن» أقرب لقلوب الفتيات، لذلك يشرعن في ندائه كلما حلت بهن مصيبة (سيدي الحسن حلم…. وبي خشمو ما أتكلم سادة وخفيف الدم بعد الفراق نتلم).
 (يا يابا الشيخ الطيِّب.. أكتب لي حِجيِّب.. لقلبي المِغيِّب.. أريتو يبقى طيب).. وهذه تقف متحسرة.. على ما فعلته يداها.. (يا حمد أب عصايا .. يا الفُقرا.. الراية راية.. من جِنِّي وغبايا.. فارقتا حبيب قسايا..!
أما “حنان بلوبلو” فندهت قائلة: (يا أبويا يا السُنِّي.. السُنِّي طمِنِّي.. بجافي ليك أهلي.. وبسكن معاك مدني).
ولمزيد من الإلمام بالموضوع التقت (المجهر) بالباحث الاجتماعي «عبد الرحمن كوكو جماع» فتحدث قائلاً: ظاهرة استدعاء الرموز الدينية خصوصاً في أغاني البنات له ارتباط شديد بالبيئة الاجتماعية الثقافية والتشكيل المعرفي التي كان عليها المجتمع السوداني من (سلطنة الفونج) وحتى انهيار (دولة المهدية)، وهي ذات ارتباط وثيق بتوجيه ملكة الإبداع الشعري والقيم الجمالية المتخيلة لدى الأمم والشعوب، فاليونانيون مثلاً كانوا يمجدون الآلهة، ثم انتقلوا إلى تمجيد الأبطال والتغني بهم باعتبارهم حاملي القيم المركزية والحكامات بغرب السودان في تمجيد الفرسان والشعوب القديمة مثل الصينيين والهنود، نشروا الأشعار الجمالية في قيمة الحكمة والرجل الحكيم الذي يلجأ إليه الناس.
أما بالنسبة للقيم الجمالية التي دخلت إلى عوالم الشعر لها ارتباط كبير بما نالوه من تعليم وتوسع في مواعين المعرفة، فارتبطت بثقافة الشاعر كذلك الثقافة المجتمعية للمجتمع ككل، والمرأة خصوصاً انحصرت في التعاليم الدينية.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية