ربيع الرماد
الربيع العربي الذي تغنى له شعراء السياسة وزين جيد الأمنيات ينتهي في الواقع العربي إلى أوضاع تبدو في أغلبها، أن محصلتها ستجعل بعض تلك الشعوب تصيح كما السودانيين عقب إطاحتهم بحكومة الفريق “عبود” والذي تحول إلى مواطن عادي يمشي في الأسواق، فالتف حوله الناس هاتفين بعد أن تكشف لهم سوء منقلبهم في الحزب والعشيرة عقب الثورة عليه ليصيحوا في سوق الزنك بالخضار على أرجح الروايات(ضيعناك وضعنا وراك)! وقد جمعتني ببعض مواطني دول الجوار الأسفار والمناسبات فوجدتهم يلعنون ثوراتهم وربيعهم الذي تحول في أكثر من منطقة إلى كابوس لا ينتهي.
فليبيا خرج الأمن والسلام ولم يعد، وفي مصر ترون ما جرى، وإن كان المصريون قد أحسوا بالخطر وربما استدركوا والحال قريب من هذا في اليمن الذي دخل منذ الأمس في مشهد وشكل جديد ستكون آثاره المقلقة أكبر على بعض دول الخليج، والحوثيون يدكون هيبة السلطة والحكومة في “صنعاء”، ويستولون على مقار الجيش والإذاعة ومبنى الحكومة فيستقيل رئيس الوزراء “باسندوة” ويجتمع الرئيس هناك في ساعات المحنة والأمور والأوضاع تتفاعل وهكذا، فإن ما يسمى الربيع العربي انتهى بإزالة حكومات وأنظمة وأتى بفوضى لا تزال ممتدة. والراجح أن ثمة شيء خطأ في تلك الظاهرة لأنها وإن قامت كتظاهرة وهبة على الاستبداد والديكتاتورية، لكنها بالمقابل كرست لاستبداد الفوضى ورجحان كفة من يملك القدرة على الضرب وإعمال النيران، حتى أنه وبعد سنوات من سقوط كثير من الأنظمة فإن من خلفوا أضاعوا الكثير وانطمست معالم الثورة البهية حتى لم يعد أحد يتبين منها ملمحاً.
هذا الواقع سيعيد تقييم تعامل الشعوب مع تحفظاتها السياسية على الحكومات والأنظمة، المواطن في أي بلد بالضرورة لن يقبل الضيم والظلم والفساد، ولكنه بالمقابل لن يرهن مستقبل أمان أسرته والسلام القليل أو الكثير المتوفر لصالح مغامرة الانخراط في عملية تغيير تحتمل أوجهاً من المخاطر، حينما يتحول الديكتاتور الذي مضى رحمة وملاكاً رحيماً مقارنة بمن يأتون بعده. ويبدو أن الثوريين الجدد بحاجة لتقديم أيقونة أكثر جاذبية وسحراً مما عرض ولاح، ففي بعض الدول التي كان عيشها رغداً وأمنها وفيراً تحولت الأمور إلى خرائب وأنفس مهدرة وثروات مضاعة، إن كانت قديماً تسرق بواسطة الحكومة فإنها اليوم تسرق بواسطة أشباح لا يعرفهم أحد، حتى أن دولاً بعينها تحولت إلى مقاطعات تحكم كل منها بواسطة قبيلة أو راية أو حزب، وصارت في بعض الأمصار لكل مدينة حكومة وسفارة وجيش ورئيس !!
إشكالية مثل هذه الأوضاع أنها ستجعل الشعوب التي نجت من فورة الربيع العربي تطبع عيشها وتتعايش مع واقعها الحالي على علاته، فليس من الحكمة في شيء أن تهدر سلامك المتاح لصالح مشروعات ثورية فشلت جميعاً حين الاختبار في أن تكون قدوة تحظى باحترام، ولهذا فإن الأسلم على الكل التوافق على تسويات تغيير الحكومات ولكن لا تهدر الأوطان.