الأديب والخبير الإعلامي "عبد القادر الكتيابي" في بوح خاص لـ(المجهر) (1-2)
الهجرة لا تكون اختياراً إلا في مجتمعات الترف
ضيفنا اليوم من الشخصيات السودانية المبدعة التي اضطرتها الظروف من جديد للهجرة أو الاغتراب ومفارقة أرض النيل التي عشقها بجنون وظهر ذلك جلياً في كل كتاباته الأدبية والصحفية وفي قصائده الشعرية. فهو من جيل المبدعين المخضرمين الذين ارتووا من ثقافة وتراث هذا الوطن وتشكل وجدانهم من عطاء عظماء بلادي الذين سبقوهم في مجالات العلم والفكر والأدب. شاعر فذ وأديب من طراز فريد وخبير إعلامي من الدرجة الأولى. إنه الأستاذ “عبد القادر الكتيابي” الذي يتواجد الآن في أرض الخليج بالتحديد في (إمارة دبي) درة دولة الإمارات العربية الشقيقة. التقيناه عبر الهاتف، فكان هذا الحوار الشيق.
التقاه عبر الهاتف – عامر الباشاب
{ في البداية قلنا له العودة مرة أخرى للاغتراب وهجر الوطن اختيار أم شيء فرض عليك؟
– يا عزيزي، الاغتراب أو الهجرة لا تكون اختياراً إلا في مجتمعات الترف أو عند الفاقدين للانتماء أصلاً للأرض والوطن وهؤلاء هم من يختارون الهجرة أو الاغتراب اختياراً.
{ وبالنسبة لك بماذا تفسر هجرتك؟
– نحن في غربتنا في حال اضطرار، نعمل ونحتمل المعاناة في المناخ الذي نعمل فيه والمناخات الاجتماعية أيضاً ونعني بهمنا الدائم بأسرنا وما يدور في بلادنا، وهذا الشتات قدر كتب علينا. ولكي أكون صادقاً معك الهجرة بالنسبة لي ولغيري من أبناء جيلي. ولكل الذين لم يحتملوا فقدان الزوايا التي يمكن أن يقدموا منها شيئاً لهذا الوطن هي شيء أشبه بالتهجير وليست هجرة مختارة وهذه هي الحقيقة (المُرة).
{ من أنتم وبماذا تميزتم كجيل؟!
-نحن صنيعة هذا الوطن ومن طينة ترابه خُلقنا، وارتوينا من ثقافته وتراثه، وتشكل وجداننا من عطاء أدبائه ومفكريه وشعرائه وعلمائه، ونحن كثافة من جلدة هذا الوطن، وعينه تحمل كل سماته، ونحن على هذا الوضع كان الأجدر والأحرى أن تنفتح أمامنا أبواب العطاء، ونحن كجيل لنا رؤيتنا في الوضع وفي التخطيط الثقافي العام، ولنا رؤيتنا كذلك في الوضع والتخطيط التربوي والتعليمي وفي المناهج، ولنا رؤيتنا في أحوال كثيرة ومختلفة بعيداً عن المزايدات السياسية والتبعيات الحزبية وبعيداً عن الأغراض والأطماع هي رؤية وطنية خالصة من حقنا أن نبديها ومن الآخرين الاطلاع عليها.
{ أرض الخليج هل استطاعت احتضانكم أم ما زلتم تشعرون بالغربة هناك؟
– بلاد غير بلادك لا أفضل استخدام كلمة “احتضان” فالأم لا تُُستبدل ومهما كانت أحضان من يحتضن في بلاد الله في الأرض فلن تكون كأحضان بلدك ووطنك.
{ من خلال تواصلك الأسفيري أو عبر متابعتك للفضائيات السودانية كيف تنظر للواقع الثقافي بالداخل ؟
– الواقع الثقافي أو كما تفضلوا تسميته أنتم أهل الصحافة (بالمشهد الثقافي) فهو محزن على الوضع العام ومبشر في المجموعات الخاصة، وبمعنى أكثر مباشرة أقول إنَّ الممارسة الشعبية للإنتاج الثقافي والإبداعي مطمئنة في ما أستشعر، أما الممارسة الرسمية للإنتاج الثقافي فإنها للأسف غير مبشرة. وقبل الحضور إلى الإمارات وأثناء تواجدي في السودان ظللتُُ أتلقى دعوات مختلفة من كثير من المجموعات الشبابية غير المنظمة، وذلك للاستماع وكنتُُ سعيداً جداً بمشاهدة بعض الندوات الفكرية والمجالس والصالونات الأدبية.
{ في رأيك ما الذي يفتقده المشهد الثقافي السوداني اليوم مقارنة بالأمس؟
– في الوجه العام اختفى أو ذهب الرونق الذي عشناه في أواسط السبعينيات إلى أواخر الثمانينيات، ذهب ذلك البريق والوهج الذي كان يشدنا، حيث كنا نهاجر إلى ندواتٍ وليالٍ ثقافية وإبداعية في أقاصي البلاد، ونحن في حال من النشوة وفي حال من التواصل وفي حال من الانسجام والاتساق الطبيعي مع إيقاع تركيبة الشخصية السودانية، أما الآن فالمسألة لم تعُُد كذلك، فهنالك الكثير من التنظير وقليل من العمل.
{ بصفتك شاعراً غنائياً ما هو تقييمك لما يُُطرح من أعمال غنائية في الساحة الآن؟
– أولاً أنا لست بشاعر غنائي.
{ ولكنك كتبت شعراً يُغنى الآن “لمحتك” و”على بابك” وغيرها من الأغنيات؟
– أنا لم أطرح نفسي كشاعر غنائي في يوم من الأيام، وهذه الأعمال التي تجعل الناس يشعرون بأنني شاعر أغنية لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة وأؤكد لك بأنني في حياتي لم أكتب شيئاً من الشعر بنية أن يُغنى.
{ إذن وبأي النوايا يكتب “الكتيابي” الشعر؟
– أكتب فقط لكي يتنفس وجداني، وأكتب تحت إلحاح مزاج، وكثيراً ما أتهرب منه ولكنه في الآخر يغلبني وعندما أكتب القصيدة لا يهمني أن يقرأها الناس أم لم يقرؤوها أو أن يتغنى بها المغنون أم لم يتغنوا بها.. سُمعت أم لم تُسمع، كل ذلك لا أضعه في حسباني وأنا أكتب، وإلا كنت محترفاً.
{ يقولون إنَّ الشعراء خاصة الكبار أصبحوا يعشقون الخلاف والاختلاف مع جميع الأنظمة؟
ليس الشعراء فقط.. الآن الأنظمة نفسها تختلف مع نفسها والنظام أو الحزب الواحد تجده ينشق على نفسه وينقسم إلى عدة أقسام فلماذا يتهمون فئة الشعراء بالخلاف والاختلاف، وهذا ليس دفاعاً عن الشعراء ولا أصنف نفسي من الشعراء بقدر ما أصنفها مع المهمومين بهذا الوطن.
{ مع ذكرك للهم الوطني.. ما هي أكثر الأشياء التي تشغل بالك في هذا التوقيت؟
– ينشغل بالي بالحروب والنزاعات بين أبناء الوطن والبلد الواحد ودمائنا العزيزة الغالية التي تتناثر هنا وهناك، هذا هو الهم الذي يقلقني؛ ولذلك أقول هنا لابد من المزيد من الوعي واليقظة والانتباه لهذه الفتن التي تنتظم البلاد.
{ في محيطك الخاص ما هي أهم قضاياك؟
– القضايا الخاصة بالنسبة لي انحصرت في “السترة” وبس، ونسأل الله أن يتحقق لنا هذا الأمر أن ننستر مع أولادنا ونستطيع أن نجد لهم في هذا الذي نسميه وطناً أن نجد لهم فيه رقعة يسكنون فيها أو أن نوفر لهم ما يواجهون به متطلبات الحياة المتفاقمة يوماً بعد يوم.
{ بصفتك خبيراً إعلامياً ومراقباً للأحوال العامة ما هو الشيء الذي يمكن أن يقال عن الإعلام السوداني الآن؟
– صحافتنا وفضائياتنا الآن ونحن في عصر تدفق المعلومات أصبحت منقولة على الشبكات العالمية إلى أعين الناس في كل مكان؛ لذلك أتمنى أن يتوخى الجميع الحذر لإظهار ثقافتنا السودانية بالمظهر اللائق.. لأنَّ المواقع على شبكة (الانترنت) لا يلبث الموقع منها في أي منتديات الحوار أن ينقل ما يُكتب في الصحافة أو ما يُبث في الفضائيات السودانية ويطرح الأمر عالمياً وليتنا نشعر بالوطن ونهتم بسيرته وسمعته كما نهتم بأنفسنا.. هنا أذكِّر الجميع وأقول لهم إنَّ الذين ينظرون إلى مظهرنا هم بالتأكيد ينظرون إلى دواخلنا من خلال الثقافة المنقولة.
{ بماذا تصف عطاء جيل اليوم من المبدعين الشباب؟
– أنا لا أخاف على العطاء الإبداعي لأنَّ المبدع أو صاحب الهم الثقافي والأدبي هو في مأمن من شرور المؤسسة سواء إن كانت هذه المؤسسة سياسية أو قبلية أو حزباً أو نظاماً ما أو أي من كانت، ومهما حاولت أي واحدة من هذه المؤسسات أن تؤثر في اغتيال الإبداع داخل المبدع فإنها لن تستطيع ذلك.
{ ميلاد القصيدة عندك؟
– إلحاح مزاجي ربما أتهرب منه لوقت طويل ثم يغلبني.
{ كتاب تحتفظ به وتعود إليه في كل مرة؟
– إذا توخيت الأمانة المحضة فإنني أقول هو كتاب الله العظيم “القرآن الكريم”.
{ تعوَّدنا في نهاية أي حوار أن نأخذ من ضيفنا اعترافاً يسجله لأول مرة؟
– مفردة اعتراف تعني في مضمونها البلاغي التحدث ضد النفس بخطأ ارتكبته وهذا هو التعريف الدستوري لكلمة اعتراف، والصحافة التي تبحث عن اعترافات الناس لنشرها إذا كانت في الإطار الثقافي أو غيره ربما تكون قد أخطأت اختيار ما تميزت به. وعلى كل حال نحن كسودانيين نعترف جميعاً بأننا طيبون وعاطفيون وهكذا نحن منذ خمسين عاماً.