السودان .. الإبحار في المضائق !!
} الكتابة ثمرة من ثمرات الفكر، الذي هو من نتاج إعمال العقل، فهي من مواهب الله يمنحها لمن يشاء، ويطالبه بحقها، ومن حقها أن تعود بالفائدة على القارئ في علمه أو سلوكه أو أسلوب حياته، وإلا كانت حسرة عليه في إضاعة عمره في ما لا يفيد. وكثيراً ما كنت أعتزم الكتابة فيصرفني عنها الموقع الرسمي الذي ابتليت به، إذ إن الناس لا يفرقون بين الرأي الخاص وبين انتماء حامله السياسي، فيصرفون آراءه إلى مواقف رسمية تتحمل الدولة تبعاتها السياسية. الآن أعود إلى شيء من الكتابة بعد أن وجدت شيئاً من التحرر من الوظيفة العامة. ويؤرقني في ذلك ما يؤرق كثيراً من بني وطني ونحن وهم ننظر إلى مستقبل عالمنا السياسي والاجتماعي، وإلى مصائر شعوبنا المختلفة.
} سيطالب السودانيون باختراق الحجب لينظروا في مستقبلهم في السنوات القادمة دون أن تحجبهم مشكلات الحاضر عن الرؤية. إن النظر في المستقبل بعين الكل يجنب البلاد مزالق النظر القصير واللا مبالاة وسوء التخطيط والندم على ضياع الوقت في غير ما يفيد.
مع ذلك فقد يصعب التنبؤ بما سيكون عليه العالم في غضون الأعوام الخمسة القادمة. ليس ذلك بسبب قلة عوامل التحليل السياسي فما أكثرها، ولكن بسبب التسارع المذهل في تسلسل الحوادث المحلية والإقليمية والدولية، بصورة لم يسبق لها مثيل في التاريخ. فلعلك لا تذكر حوادث الأسبوع المنصرم بما استجد في هذا الأسبوع. الكل منبهر الآن بما يجري في العراق، الذي أنسانا فظائع سوريا والفوضى غير الخلاقة في ليبيا.
} لقد أفرغت العولمة المجتمعات الكونية من خصائص التحكم الذاتي في مصائرها وجعلتها في كل العالم في مقاعد المتفرجين. ولم تعدّ الدول الآن محصنة بالحدود الجغرافية من الانتهاكات، ولم تعدّ السيادة الدولية معترفاً بها كما كانت من قبل، وذابت الأعراف والمفاهيم والنظم الدولية التي كانت تحفظ للعالم أمنه وطمأنينته، وحلت مكانها الهيمنة المدفوعة بنوازع القوة.. المبعوثون الغربيون يهرعون إلى مناطق الحدث للتأكد من أن الخطط تجري بلا عوائق، وهو ما يعرف بقانون الغاب، الذي تكون الكلمة فيه للكواسر والفناء فيه للظباء وبنات آوي وأمثالها.
} الذين استسلموا لهذا الواقع انبهاراً أو يأساً أو طمعاً في مكاسب الحياة في عالمنا الضعيف الثالث، يراهنون على نهاية التاريخ وسيادة الحضارة الغربية بكل ماديتها وتحللها من الخلق والمثل والدين، واستخدامها للوسائل المتطورة في السيطرة، وحفاظها على تفوق البيض وسيطرتهم على موارد البشر ومصادر الطاقة. وكثير من هؤلاء المستسلمين في بلادنا وما حولها يعتمد الغرب عليهم مداخل لاختراق الدول المستضعفة ومساعدته في إحداث الفتن والسيطرة على مصائر الشعوب.
} وقد يرى آخرون – مصيبين – أن المستفيد الأول مما يجري من حولنا هم اليهود، فإنهم قد نجحوا في خطتهم لهيمنة إسرائيل على العالم، إذ تستطيع إسرائيل اليوم ودون استئذان من أحد من البشر أن تكمل مشروعها الكبير من النيل إلى الفرات بضربة عسكرية واحدة دون خشية من قوة عسكرية عربية أو إسلامية، وهي آمنة مطمئنة من أية إدانة دولية من مجلس الأمن. إن إسرائيل هي اللاعب الرئيس في صناعة الأزمات الإقليمية والاستفادة منها في تحقيق أمن إسرائيل.
} وفي العالم العربي، الذي انهارت نظمه السياسية تباعاً وبقيتها الآن في صف الانتظار، وربما في العالم الأفريقي أيضاً، سيزداد مهدد تفكيك الدول التي كانت لها بالأمس القريب صولات وبطولات وطبول وحناجر، نتيجة ما فعله بعض أبنائها الذين صاروا عوناً للأجنبي على بلادهم ومعولاً لهدم بنيانهم. وربما سيزداد انحسار المنظمات الإقليمية مثل الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي والاتحاد الأفريقي وأمثالها، التي نشأت في ظروف لا وجود لها في عالم اليوم، مثل التضامن العربي بالخلفية القومية العرقية أو التقارب الإسلامي السياسي في مواجهة المدّ الشيوعي أو تحقيق شعار أفريقيا للأفريقيين لتشجيع ومساندة حركات التحرر، للتأثير في السياسة الدولية.
} تفتقد المنطقة العربية الآن الإحساس بفائدة الأمن القومي أو الإقليمي وبفائدة التخطيط الجماعي. لقد انكفأت كل دولة على نفسها، وحسبت الدولة العربية كل دولة أخرى عدواً. لقد تراجع بالفعل دور الجيوش المحلية في حسم المهددات القومية، إذ انهارت هذه الجيوش أو وقعت في فخ الصراع الداخلي، وربما نشأ تقارب جديد محدود دوافعه الخضوع للمصالح الأجنبية أو الذاتية أو حب البقاء وخوف الغرق بدلاً عن الدفاع عن كيان أمة، أو الحفاظ على بقية إرث، أو التمسك بمبدأ أمن قومي أو إقليمي. وستكون النتيجة المرعبة مزيداً من الانهيار الحضري والسياسي والاجتماعي، ومزيداً من دماء الأبرياء ومن النزوح واللجوء والمجاعة والثكل والشكوى والإدانة والإحباط.
} هذا بالطبع ما سيحدث في العالم الذي ننتمي إليه، بما خطط له الآخرون في غياب التخطيط المحلي للمستقبل، ما لم تحدث بالطبع سنن التغيير الكونية بتغيير البشر لما بأنفسهم. والذي يهمنا هنا المؤشرات الدافعة لرياح التغيير في بلادنا السودان، فالسودان يبحر في هذه المضائق والعواصف يريد العبور إلى البحر المحيط.
} ففي مقابل المشكلات التي تواجهنا في المرحلة القادمة والتي سنتطرق إليها، تأتي تطلعاتنا المشروعة في استكمال مشروع نهضة حضرية قاصدة وممكنة، لا بد فيها من المحافظة على استقلالنا السياسي والثقافي على عظم محاولات طمسه، ركائزها الوحدة والسلام والحرية، وهدفها الإعمار الاقتصادي والاجتماعي، ووسائلها الاهتمام الفائق بالإنسان، إعداده وتعليمه وتدريبه وحمايته ورعايته، ليكون هو محركها وصانعها وحاميها. إن بقاء هذا الهدف في أذهاننا على الدوام يأتي في مقدمة الضرورات إذا أردنا أن يكتب لنا النجاة والنجاح. فبهذه الرؤية في أذهاننا سيكون في استطاعتنا الاستمرار في العطاء واجتياز العقبات والوصول للهدف، والسنوات القادمة ستكون فترة امتحان لها.
} التحديات الماثلة كما يعلمها الجميع تتلخص في قضايا الأمن القومي وتقوية ممسكات التوحد والتوحيد وإنهاء نزعات التمرد والانفلات والفوضى والصراع القبلي، وفي إصلاح الأحوال الاقتصادية، وفي مكافحة ضراوة الفقر والحاجة، وفي تطوير نظم العدل والضبط القانوني والإداري للدولة ومؤسساتها ونظمها وفي الانتقال من مرحلة المجتمع التقليدي العفوي إلى مرحلة تنظيم الحياة العصرية وتطويرها باستمرار ومتابعة. يقتضي ذلك الوصول بالبلاد إلى مرحلة من الاستقرار السياسي تزول فيه تشوهات الممارسة السياسية وتخليها عن دورها في القيادة الراشدة للأمة. والتحدي هنا أمام السياسيين، إن كان في مقدرتهم الحفاظ على كيان الأمة من التمزق بديلاً عن المساهمة الفاعلة في تمزيق أمتهم بما يقدمونه من ترجيح الخلاف على الوفاق، وتقديم المصلحة الخاصة على العامة، وهنا يأتي التحدي الأكبر في كيفية التعامل الخارجي مع عالم لم يعد معترفاً بالنظم الدولية أو الاتفاقات الكونية أو بأصول التعامل بالندية بين دول العالم، وإنما يسعى لفرض ما يريد بالإكراه والتطويع والاختراق للدول والممالك والنظم السياسية.
} الفرص المتاحة أمام بلادنا للعبور إلى بر السلامة عديدة أيضاً، فالبلاد زاخرة بمقومات النهوض، عراقة تاريخها ووفرة مواردها الهائلة والمتعددة والمتنوعة كما يعلم الكل، ولا يوجد بها من مهددات الاضطراب الاجتماعي صراع طبقي ولا إحن عميقة ولا ثارات قومية ولا خلافات مذهبية ولا عصبية طائفية، ولا فكر فوضوي هدام مؤثر. كما أن أسباب العيش الزهيد متوفرة بالقدر الذي يحول دون المحاصرة الخارجية وإنتاج الأمن الغذائي الذي يحول دون المجاعات الكبرى متاح بوفرة الماء والإنتاج التقليدي للأغذية. ويضاف إلى ذلك الاستقرار النسبي مع غالب دول الجوار والنهج المتبع من قبل الحكومات المتعاقبة في الحفاظ على حسن الجوار. ومن الفرص أيضاً ازدياد المعرفة وتطور التعليم وانثيال دفعات التخرج والتأهيل والتخصص في أوساط الشباب وانفتاحهم على العالم الخارجي والاحتكاك برصفائهم في دول العالم المختلفة.
} المرحلة القادمة عمرها خمسة أعوام، وترتيبات التمهيد لها محكومة بنظام دستوري شاركنا فيه جميعاً بإقرارنا للدستور الانتقالي عام 2005م بإجماع وطني فريد شمل الحركة الشعبية وأحزاب التجمع الوطني والأحزاب الوطنية الأخرى، وأصدرنا بذات الإجماع قانون الانتخابات العامة، وأرسينا به نظاماً للتداول السلمي للسلطة وحددنا فيه آجال الانتخابات، ونظم المشاركة فيها، والآن يقترب الوقت للرجوع إلى الشعب صاحب الكلمة بعد الله تعالى في تجديد التفويض لمن يتولى حكم البلاد لخمس سنوات أخرى.
فما هي مهام المرحلة القادمة، ونحن نرى المهددات ونرقب الفرص؟
} علينا أن نتفق أن الحوار الداخلي المستفيض المستمر المتجرد من الهوى والأجندة والمماحكة، والهادف لمصلحة البلاد العليا هو النهج الذي يخرجنا إلى بر الأمان إن شاء الله. ومع ذلك فلنتفق على أن سنة التقاعد مطلوبة في العمل السياسي كما هي في الوظيفة العامة. فالجيل الذي سيتولى مقاليد الأمور في المستقبل القريب كيفما كان انتماؤه ليس هو جيل التسعينيات وما قبلها، فكثير ممن يصولون الآن في ميادين السياسة سيجدون أنفسهم بأقدار الله وتقدم العمر، خارج الميدان وربما خارج الحياة، إذ ليس متوقعاً أن يجد كهول السياسة وشيوخها مكاناً لهم في السلطة مع زمر الشباب. كما أن بعض القوى السياسية التي نشأت في ظروف إقليمية أو أيديولوجية محلية أو عالمية قد استنفدت أغراضها وغرب نجمها وأفل بريقها ولم يعد لها من عدة تعينها على البقاء.
} المرحلة القادمة هي مرحلة الجيل الناشئ. إنه الجيل ذو الإعداد المعرفي، العامر بالإيمان، المشرب بالثقة، المتوثب المتفتح للحياة، الطامع في صنع المستحيل، والصاعد في سلم المجد، والمستعد لدفع الثمن الغالي لإسعاد أمته. إنه جيل الأبناء الشباب الذين هم حصيلة جهود الأسر السودانية الكريمة إذ دفعت في سبيل إعدادهم كل ما تملك. إن من حقهم علينا أن نفتح لهم الأبواب للتحاور والمجادلة والتفاهم بعيداً عن مكايدات الماضي ومتزايدات المستقبل.
} إن على الجيل القادم للحياة في الأعوام الخمسة أن يضع دستوراً للبلاد بأقلامه لا بأقلامنا، ربما احتاج لبعضنا في المشورة والاستنارة والنصيحة، غير أن القرار قرارهم والدستور دستورهم، يلبي تطلعاتهم ويشبع رغباتهم ويقابل طموحهم، الحرية فيه لهم يمارسونها، ليس لنا أن نضع لهم القيود على حرياتهم فهم أدرى بها منا. الحوار السياسي المفتوح والتواصل القيادي وإفراغ شحنة التوتر الناتج من ممارسات الماضي، وإيجاد صيغ متقدمة للتفاهم واقتراح المبادرات والمشروعات السياسية المشتركة والتشاور في القضايا الحيوية والقرارات المصيرية، جميع ذلك يفتح الأبواب للتهوية السياسية الشاملة وينهي عهد المزايدة والمناورة والتبطل.
} ومن مهام المرحلة تجاوز الظرف الأمني الذي نتج عن بقايا الانفصال، ليس فقط بالحسم العسكري وإنما لإفساح المجال لأبناء المنطقتين وغيرهم من أبناء السودان للتعبير عن همومهم وعن إرثهم الثقافي وعن مميزات وجودهم في المجتمع فهم سودانيون يحق لهم ما يستحقه غيرهم، وربما لجأ كثير منهم للحرب بالإكراه ولما يجدوا بعد هناءة العيش في ظل السلام. وينطبق الأمر أيضاً على من خرجوا لحمل السلاح من مجتمع دارفور، إذ لم تترك المحادثات الداخلية والخارجية قضية من قضاياهم دون معالجة.
} نريد لبلادنا أن تنعم في الفترة القادمة بحصة سلام تنهي كل ألوان حشر الأنوف الخارجية في شؤوننا، فلولا أن بعض أبناء بلادنا أتاحوا لهم المجال للتدخل لما وجدوا حيلة لاختراق وحدتنا وانتهاك سيادتنا. ويقتضي هذا مزيداً من التواصل الخارجي وتقوية الصلة مع الأصدقاء وإيجاد مقترح للتعايش مع من أضرموا نيران الخصومة مع بلادنا.
} إن علاقتنا بالجنوب ستزداد قوة، ما تغيرت قط بسبب ما أصاب جنوب السودان من حروب ومحن، نتوقع لها أن تنتهي بخروج الجيل الذي أدار الحروب وعاش في أجواء القتال وبروز الجيل المستنير المثقف في حكم جنوب السودان، وتنمو حينها العلاقات مع السودان أحسن ما تكون، كما هي الآن مع الجارة أثيوبيا والجارة تشاد.
} ستكون هموم الاقتصاد الكلي وصلاح بنيته وهياكله على العلم والابتكار أحد هموم المرحلة، بالسعي المستمر لزيادة الإنتاج واستكمال مشروع البنى التحتية، ونتوقع بإذن الله وصول الطرق البرية والكهرباء والمياه إلى أطراف البلاد شرقاً وغرباً، واتساع دائرة الاتصالات في جميع البلاد، والاهتمام المتزايد بتنمية الريف وترقية القدرات، والاستفادة من نتائج الأبحاث في زيادة الإنتاج الزراعي، وإيجاد فرص العمل للشباب.
} سيكون للسودان دور في المساهمة الفاعلة في استقرار القارة الأفريقية، وفي حث الأفارقة على الاعتماد على النفس ومقارعة أحابيل الاستعمار الجديد والتمسك بأهداب السيادة الوطنية والقرار الوطني المستقل.. كل ذلك قد بدأ الآن كما نعلم، ويستمر بإذن الله إلى أن تجد القارة نفسها في محفل صنع القرار العالمي. أما في عالمنا العربي الذي ندعو له بالعافية من أسقامه المزمنة، فالسودان كعادته لن يكون طرفاً في أي صراع عربي أو إقليمي إذ لم يعرف عنه أنه قد أدخل رجلاً أو يداً في مستنقع التآمر على بلد من البلدان، إنما يستمر في نهجه عنصر إصلاح وتوفيق ومصالحة مع الأشقاء، مبتعداً عن مشاحناتهم وممثلاً إيجابياً لهم في القارة الأفريقية وحاملاً لأفضل ما لديهم من قيم ومثل وثقافة، لا يطلب في ذلك جوائز ولا مكافأة نظير أدائه لواجبه المقدس.
} الخلاصة.. أن رياح التغيير تهب الآن، وتزداد قوتها مع مرور الأيام ويزيدها مر الليالي قوة، فهي من نفحات التغيير الرباني الذي لا يعتريه الوهن من كثرة التآمر عليه، ووقوده شباب الأمة بجمعهم لا بتحزبهم، ووحدتهم لا بتفرقهم وتجردهم لا بأهوائهم، وبعلو همتهم لا بفتورها، وبتوكلهم لا بوجلهم والله غالب على أمره. إنه التغيير الذي يعطي المثال في دولة قوية مستقرة في بحر الفتن التي ابتلي بها عالمنا، دولة آمنة في محيط الذعر والخوف والرعب، دولة موحدة في أتون التمزق والتفتت، دولة مرهوبة في انكسار الضعفاء. إنها الدولة التي حفظها الله تعالى طيلة هذا الزمان وما يزال حفظ الله يظللها ويبعد عنها الشياطين والأبالسة والمردة، مصاحباً لها في مسيرته إليه، ما استقامت على هذا الطريق.
* عضو المجلس رئيس البرلمان السابق