الشيخ «فرح ود تكتوك» النوبي..!!
قال وهو يحاورني، فكثيراً ما تحاورنا وتجاذبنا أطراف الحديث في السياسة وشتى ضروب المعرفة، فمحدثي رجل بسيط المظهر ولكنه جميل المخبر في السياسة وضروب من العلم والثقافة.. وعبارة جمال المظهر وقباحة المخبر وعكسها استعرتها من حديث السيد “الصادق المهدي” قالها في الجمعية التأسيسية في تلك الجلسة بمداولاتها المشهورة حينما تحدث المرحوم “الشريف زين العابدين الهندي” طيب الله ثراه، فأوضح حال القوات المسلحة بالجنوب آنذاك إلى أن قال (الديمقراطية لو شالها كلب ما بنقول ليهو جر)، فأعقبه السياسي الجنوبي المخضرم “أنجلو بيدا” بلغة عربية شابتها البساطة والركاكة ولكن المضمون وجد قبولاً واستحساناً من الإمام، وعندما حانت الفرصة للسيد “الصادق المهدي” بالحديث ارتجل وابتدر بمقدمة ما زلت أحفظها، ويمكن للإمام أن يصححني إن تجاوزت النقل الحرفي، قال: (لم أسمع طول حياتي السياسية حديثين مؤثرين كهذين الحديثين أحدهما جميل المظهر ولكنه قبيح المخبر والآخر قبيح المظهر ولكنه جميل المخبر)- ويقصد بذلك حديث “الهندي” الجميل اللغة والكلمات ولكن المضمون ليس كما يشتهيه، والآخر حديث “أنجلو بيدا” ويبدو فيه قباحة في المظهر من حيث اللغة والركاكة ولكن فيه جمال في المخبر والمضمون يصب لصالح الإمام.
نعود إلى محدثنا الذي سماته بساطة المظهر مع جمال مخبره في التحليل السياسي وشيء من العلوم والثقافة، قال: (أليس لقيام الساعة إمارات وشواهد وكذا لانهيار الدولة وزوال الملك ودنو أجل الأفراد؟). قلت: (بلى).. فأردف: (إن دنو أجل الإنقاذ وزوال حكمها قد حان)، واستطرد: (إن إمارات دنو الأجل والزوال ليس مقيداً بفترة زمنية، فالإنسان يمرض ويستسلم لداء عضال والكل يعلم بدنو أجله ولكن قد يمتد به الحال كذا من السنوات).. قلت: (صحيح). فزاد في القول.. درسنا في التاريخ والذي لا شأن له بالسودان وهو تاريخ الدولة العثمانية، وكان ذلك بالتفصيل الدقيق والممل حتى وصلنا إلى عوامل ضعف وتفكك الدولة العثمانية التي بدأت في أواخر القرن التاسع عشر ولكنها لم توأد إلا في العقد الثاني من القرن العشرين عند هزيمة ألمانيا، حيث كانت الإمبراطورية العثمانية حليفة لتركيا في الحرب العالمية الأولى، فاستطرد بقوله إن إمارات وعلامات زوال الإنقاذ قد استبانت ولكنها بمثابة الرجل الذي يوسد رأسه على فراش المرض من داء عضال يستحيل علاجه، فقلت: (يجزيك الله حدثنا عنها إن صدقت عسى ولعل أن تكون “ود تكتوك” آخر الزمان).. صمت برهة وأطرق ثم رفع رأسه وقال: (أن يتولى فلاناً الوزارة ويستشار في أمور الناس والعباد وخاصة في الولاية المضطربة).. تعجبت لأنني كنت أحسب إمارات تفكيك الإنقاذ من خلال الحوار كما يرى أهل اليسار، أو ضعف الحركات المسلحة وقطاع الشمال، أو المتغيرات الدولية والإقليمية التي تكالبت على الإسلاميين، وهنالك الحصار الاقتصادي وغيره.. لكن الرجل ترك كل ذلك جانباً وأشار إلى (فلان).. لم أستخف بحديثه ولم أقبل به كمسلمات، فليس في نظري ولياً من أولياء الله وله كرامات، وأدرك أنه لا يختلف مع الإنقاذ في الفكرة والمنهج ويتسم بالموضوعية، فكثيراً ما تحدثنا مع بعض الكبار قبل سنوات خلت عن انفصال الجنوب وهم يحدثوننا عن الوحدة الجاذبة، وكتبنا عن شجر يسير خارج جنوب كردفان فصدقت الرؤيا بالانفصال، وزادت حينما رأى الناس في (أبو كرشولا) و(أم روابة) شجراً، ويمشي بينهم في الأسواق.
الرجل سبق أن تحدث عن انفصال الجنوب واشتعال الحرب بين الجنوبيين وأرتال منهم ستنزح صوب السودان والخرطوم.. كل ذلك جعلني أتوقف أمام قوله بأن من علامات زوال الإنقاذ وانهيارها (أن يتولى فلاناً الوزارة).. قلت في سري كيف ينبغي لرجل واسع الإطلاع موضوعي السرد أن يربط الانهيار بشخص؟؟ وبعد أن شرح لي بالتفصيل حججه وبراهينه، قلت في سري أسأل الله ألا تصدق رؤياه، خاصة وأنه ربط زوال الإنقاذ بزوال الدولة وانهيارها، فنسأل المولى أن لا يكون “فرح ود تكتوك” النوبي قد ظهر آخر الزمان. ففي الاثنين قواسم مشتركة فـ”ود تكتوك” والدته نوبية، وكلاهما بسيطين في المظهر مع جمال المخبر. ولعل بساطة الأول معلومة للسودانيين حينما لبى نداء وليمة فلم يعلم بأمره أحد، فرجع واستعار جلباباً وعمامة كتلك التي يتزين بها “ترباس”، فأحسن حاله ورجع فتكالب عليه الناس ظناً بأنه من الأعيان، فجلس إلى المائدة وأدخل يد جلبابه وقال قولته المشهورة (كُلي يا كُمي قبل فُمي)، تقديراً للجلباب الذي جلب له الاهتمام والطعام.. فالناس تفتتن بالمظهر وتنسى جمال المخبر، والمثل السودان يقول (المظاهر خداعة).