رأي

أوراق حول الفساد.. تعريفه ومحاربته (1)

كثر في الآونة الأخيرة الحديث عن الفساد والمفسدين، وإن شئت فقل عمّ الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس!! وراح الحديث يكثر في بلادنا السودان عن آلاف المليارات منهوبة أو مغسولة!! تارة من الدولة وتارة بين الناس بعضهم البعض وبين المؤسسات والشركات!!
يقول الشيخ “محمد الغزالي” عليه رحمة الله إن الفساد (السياسي) مرض قديم في تاريخنا، هناك حكام حفروا خنادق بينهم وبين الأمة لأن أهواءهم طافحة.. وشهواتهم جامحة، لا يؤتمنون على دين الله ولا على دنيا الناس!! ومع ذلك فقد عاشوا آماداً طويلة!!
{ يقول الشيخ “الغزالي”: (وقد عاصرت حكاماً تدعو عليهم الشعوب ولا نراهم إلا حجارة على صدرها توشك أن تهشمه!! انتفع بهم الاستعمار الشرقي والغربي على سواء في منع الجماهير من الأخذ بالإسلام والاحتكام إلى شرائعه!! بل انتفع بهم في إفساد البيئة حتى لا تنبت فيها كرامة فردية ولا حرية اجتماعية!!).
لما اختلط الحابل بالنابل وراح الناس يلغون في الفساد، أخذوا لا يفرقون بين ما هو حلال وما هو حرام !! فراح هؤلاء يأخذون الرشوة ويقولون إنها (تسهيلات!!) وراح أولئك يأخذون العمولة (Commition) على أساس أنها حق مشروع لهم حتى لو كان العمل الذي يقومون به هو من صميم واجبهم المفروض عليهم فرضاً.
يقول “روبرت كليتجارد” في مؤلفه القيم (السيطرة على الفساد) إن موضوع الفساد موضوع حساس. وكما يحدث عندنا الآن في السودان، فإن أكثر الذين يذكر لهم الفساد يقولون لك إنه لا يمكن عمل شيء، فالفساد في كل مكان!! وأحياناً يتلمس لك علماء الاجتماع الأعذار للفساد فيقولون: (إن الرشاوى شكل من أشكال تقديم الهدايا ينسجم مع الأعراف المحلية!!).
إن الفساد يوجد عندما يحاول شخص وضع مصالحه الخاصة بصورة محرمة أو غير مشروعة فوق المصلحة العامة أو فوق المثل العليا التي تعهد هذا الشخص بخدمتها.
قال “شيخو شاقاري” الرئيس النيجيري عام 1982م: (إن المشكلة التي تقلقني أكثر من غيرها هي التردي الأخلاقي في بلادنا، فهناك مشكلة الرشوة، والفساد وفقدان الإخلاص في أداء الواجب وخيانة الأمانة وأمثال كثيرة من هذه الرذائل..).
بعد مضي عام واحد على قول “شيخو شاقاري” هذا أطيح بحكومته المدنية في انقلاب عسكري برره الذين قاموا به بالحاجة إلى ضبط الفساد، وقال الانقلابيون في أول بيان لهم إن (الإدارة الجديدة لن تتهاون إزاء الدجل والاحتيال والفساد وجنون التبذير وسوء استخدام الوظائف العامة للمصالح الفردية أو الجماعية أو غير ذلك من مثل هذه الرذائل التي ظلت سمة مميزة للإدارة في السنوات المنصرمة..).
إن أكثر الذين يتولون الحكم بعد حكومات سابقة مدنياً أو عسكرياً يتحدثون أول ما يتحدثون عن أنهم جاءوا لمحاربة الفساد، فقد قال “راجيف غاندي” في أول خطاب ألقاه في أعقاب اغتيال والدته في أواخر عام 1984م إنه (لم يعد بالإمكان بعد الآن تحمل أولئك الذين يتسم سلوكهم بالفساد والخيانة)، ويعود النجاح الساحق لحملة “راجيف غاندي” الانتخابية إلى أنه وعد بمحاربة الفساد والمفسدين.
الرئيس المكسيكي “جوزي لوبيز بورتيلو” قام في احتفالات تنصيب خلف له عام 1982م بتوجيه انتقاد لاذع للنظام نفسه الذي ينتمي إليه!! وقال إن الحقيقة المحزنة هي أن المواطنين المكسيكيين قد حصلوا بطرق غير مشروعة (على أموال من المكسيك خلال العامين الماضيين أكثر بكثير من مختلف أنواع الاستغلال الذي قام به المستعمرون في تاريخ البلاد قاطبة!!).
إن الحكومات تفشل كثيراً في محاربة الفساد خصوصاً عند انخفاض أو انحلال الوازع الديني عند مواطني دولة بعينها، وعندما يستشري الفساد في مفاصل الدولة فإن المسؤولين أنفسهم يفقدون الرغبة في محاربة الفساد، لأنهم يكونون من الوالغين فيه!! ولا تنفع إجراءات التطهير البيروقراطي، ولا قواعد السلوك ولا وزارات الإرشاد ولا قوانين محاربة الفساد!!
وأنواع السلوك غير المشروع والفاسد كثيرة، مثل الاحتيال والرشوة والابتزاز والاختلاس وتجنب دفع الضرائب، ودفع العمولات.
إن أكثر المخلصين في دولة بعينها يرون أن الفساد هو تهديد مباشر لتحقيق رغباتهم المخلصة في تطوير البلاد والارتقاء بالمواطنين والعباد.. ومن هنا تنشأ الرغبات الأساسية عند من يشغلون مناصب مسؤولة في الشرطة والجمارك ووزارات العدل والإرشاد والأجهزة المسؤولة عن تطبيق اللوائح والأنظمة، تنشأ لديهم رغبات جامحة وشديدة في محاربة الفساد الذي ينخر في أجهزة الدولة وينتشر بين مواطنيها.. فما هو هذا الفساد الذي يرغب هؤلاء في معالجته والقضاء عليه؟!
إن ما هو مشروع، وبالتالي ما هو غير مشروع، يعتمد على الدولة والثقافة التي يجري الحديث عنها، ولكن أغلب دول العالم تشجب معظم حالات الرشوة والاحتيال والابتزاز والاختلاس، ومعظم أشكال دفع العمولات عند إبرام العقود العامة.
إن لدينا في السودان أشخاصاً يتردد أنهم دخلوا في شركات عامة مملوكة للدولة فخرجوا منها وهم يملكون ملايين الدولارات، بل قيل أنهم يملكون أسهماً في هذه الشركات العامة!! وأكثر الحديث الآن يدور عندنا حول شركات مملوكة لأبناء مسؤولين وأخوتهم وأقاربهم، وهذا يتناقض مع قواعد السلوك التي سلكها السلف الصالح في مسائل تولي المناصب في الدولة أو في أجهزة وأموال خاصة بعامة المواطنين.
إن رسولنا الكريم سيدنا محمد “صلى الله عليه وسلم” قال لعمه “العباس” (رضي الله عنه) عندما طلب الولاية: (إنّا لا نولي هذا الأمر أحداً يطلبه!!).. ومعلوم عن سيدنا “عمر بن الخطاب” (رضي الله عنه) أنه قال ما معناه إنه (يكفي عمر من أهل عمر في تولي الخلافة).
إن أوروبا قتلت حكامها الفاسدين في ثورات مشهودة وعارمة، وقد قامت الآن ثورات في العالم العربي هي كلها لمحاربة الفساد وتولي الحكام وأسرهم للسلطة بغير وجه حق!!
بدأت هذه الثورات في تونس، فهرب الرئيس “زين العابدين بن علي” ومعه زوجته على طائرات وهم يحملون الذهب عليها!!
وفي ليبيا أطاح الشعب بالعقيد “معمر القذافي” الذي عاث في الأرض الفساد هو وأولاده وأسرته على مدار أكثر من أربعين عاماً!!
وفي مصر كان “حسني مبارك” يعد من دون مواربة أو خجل لخلافة ابنه له في الحكم!!
وفي سوريا أحال “حافظ الأسد” الجمهورية الرئاسية إلى جهورية وراثية!! وبالطبع فإن الفساد السياسي هو أول وأخطر مظاهر الفساد المالي!!
إن الاستبداد السياسي هو المدخل إلى انهيار أجهزة الدولة تحت وطأة الفساد المالي، لأن الحاكم ومن اتبعوه عندما لا يفرقون بين ذمتهم المالية الخاصة وذمة الدولة العامة، فإن الحابل يختلط بالنابل ويروح الذين هم على سدة الحكم في فساد كبير لا يمكن معالجته إلا بزوال الحكم الفاسد، وهو ما يكلف الشعوب الكثير من الدمار وإراقة الدماء.
إن كبت الشعوب وكبح جماحها ومنعها من ممارسة الحرية وكسر الأقلام الحرة والإعلام الحر، كل ذلك يقود إلى الفساد السياسي، والفساد السياسي يقود إلى الفساد المالي، وكل ذلك يقود إلى تردي أحوال المواطن العادي، ذلك لأن مال الدولة يجري في مواعين غير المواعين الحقيقية التي تصب في مصلحة هذا المواطن العادي البسيط.
إن الذين يفسدون لا يحبون الحديث عن الفساد، والمجتمعات تنهار عندما ينتصر في المجتمع من هو مجرد من الحياء، وعندما يعجب الناس بالمسيء واللص!! وعندما تنهار المبادئ العليا ولا تعم إلا الانتهازية!! وأخطر ما في الأمر عندما يتحمل الناس ذلك وتسكت الغالبية عن شجب هذا الذي يحدث!!
أحياناً يحاول المجتمع أن يتغاضى عن موظف في الدولة راتبه لا يكاد يكفيه لعدة أيام، ولكنه يقيم وليمة عرس لابنه أو لابنته بطريقة باذخة يندي لها الجبين!! أو لموظف آخر راتبه معلوم ولكنه يمتلك البيوت والعمارات والسيارات الفارهة!!
إن الناس يتحدثون أن موظفاً في الدولة قدم لشقيقه مفاتيح سيارة جديدة عندما قدم من الخارج فرفض هذا الأخير تسلّم السيارة، وقال إنها لا شك من مال حرام!! وآخر انتقل إلى عمارة من عدة طوابق فرفض والده القادم من الخارج أيضاً السكن معه لأنه علم أن هذه العمارة من مال حرام!!
كيف يمكن السيطرة على الفساد؟!! وكيف يمكن محاربة الذين أفسدوا ورد الأموال منهم؟!! وهل هذا ممكن؟!!
هذا ما سنراه في هذه الحلقات عن الفساد وعن الذين أفسدوا..!!

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية