رأي

ضوء آخر النفق

ستفت الريدة عفشها لم تترك حتى اللدايات بداخل شنطة حديد كبيرة … صندوق خشبي وجوال خيش …. منزعجة وحزينة جداً كانت …
ستغادر بيتها .. بل إقليمها بحاله بعد أن أمسكت السماء بمائها فغادرت الحياة ..ألم يقل الرحمن في محكم تنزيله ( وجعلنا من الماء كل شيء حي) صدق الواحد الأحد، زحف الحسكنيت وسرح وغلف الأرض فبات السير يؤذي البهائم جاعت وطال عطشها تمددت وغرست أفواهها في التراب وكأنها تستحلفه أن يخضر وينبت ….ولكن .
الريدة وأسرتها كانوا من آخر المغادرين، الشيخ والدها تشبث بأرضه ( آفو أفز من واطاتي) ؟ وإكراماً له ولتأريخه وعزه فقد ضمته داخلها، فقد توفي الشيخ حزناً الذين غسلوا جثمانه تحدثوا عن ابتسامه الراحة التي كست وجهه المعروق … عادوا من المقابر بسرعة فقد أقسموا بأن التربة كانت محفورة جاهزة، حفيده الضوء تأخر … نادوا عليه ( الواطة مغربت) رد عليهم ( عارفا أرجع كيفن إن ما وسمت تربة جدي الشيخ ؟؟) همهم البعض ( توسما لي منو يالمبروك ( هى تاني فيها قعدة ولارجعة ما خلاص عسل وانغسل) أكبرهم سناً تمتم ( مين عارف ؟؟) وقصده للمساعدة. عندما رجعوا من الدفن لم يتناولوا شربات الكركدي كالعادة فود عبد المحمود التاجر الوحيد جمع ماتبقى من بضاعة دكانه وغادر مع أول المغادرين مردداً ( المال تلتو ولاكتلتو ) .
سلمت الريدة لوح والدها الشيخ ومسبحته وعكازه للضوء بكرها (أمسك هاك ختهن في شنطتك) وأضافت منبهة (من فوق على هديماتك ). محمد شقيق الضوء وابن الخامسة خرج من زريبة البهائم يحمل سخلته الكرته … هى آخر ماتبقى.. علقت أمه ( مخير الله المراح كلو إنقرض وأضافت بالإيمان كله (البركة في الكرتة).
رمال الطريق عاندت عجلات اللوري ولكنه عناد المنهزم فهاهو العوض يعلن الدخول لطرف الخرتوم (شايفين الأنوار ديك) ؟ جميعهم أمعن النظر إلا الريدة سرحت مع آخر جلسة وزوجها يحدثها بقرار سفره إلى السعودية – كان هذا قبل الكارثة التي حلت بالإقليم.
شغل لي شغل هناك أخير وحتى يطمئنها قال ( ما شفتي ود القرشي ؟) فرحت فحقيقة ود القرشي عاد ظافراً ثم حزنت فود القرشي غاب أكثر من سبع سنين لاخبر لاأثر، انقطعت أخباره تماماً حتى أن أمه بكته ولبست قنجة الحد وعند عودته سالماً غانماً زغردت وكرمت وتساءل أصغر أولاده والذي تركه أبوه جنيناً برحم أمه (حبوبه فى شنو؟؟) ردت ( هي يا المصطفى أبوك ما جاء ) فعقد مابين حاجبيه وابتسم فبانت أسنانه المصفرة وهرول للحوش القدامي (يابا … يابا صحي إنت أبوي ؟؟؟)
قرأ حسن الزوج المسافر على وجه الريدة الخوف من المجهول فطمأنها قائلاً ( يازوله إنت قايلا أنا بخليكم بالسنين والله ما بسويها (عادت الريدة من سرحانها قائلة) تراك سويتها يا ود العم . دخل اللوري الخرتوم قصد العوض مكان من سبقهم حيث استقبلوهم بترحاب شديد ( حمداً لله على السلامة وجيداً جيتو). طول المشوار واختلاج الوجدان والخوف من المجهول لم يطغَ على دفء المشاعر. أنزل الضوء العفش أخذ حقيبته حيث الرجال وترك محمد وأمه التي لم يغمض لها جفن، دردشت قليلاً مع جاراتها وأخواتها طويلاً ملكنها خبرتهن ( الريدة ماتشيلي هم… الشغل في الخرتوم راااقد إن درتي شغل البيوت ولا الشغل في السوق إلا نسوان الخرتوم ما بتمشطن ) قالن ذلك لأن الريدة من اللائي يجدن تضفير الشعر – وأضفن (كان لي محمد الضوء يدخلوا المدرسة بعد تلاته شهور فيشان المدارس هسه مؤجزة ) حل بصدرها شيء من الأمل ( التعليم ) لمحمد هو المكسب الأساسي في هذا الرحيل القسري .
اختارت الريدة بيع الطعام رغم أنها تساءلت ( هو الأكل كمان بيبيعوا في الخرتوم؟؟) ضحكت أخواتها ( هي يا الغشيمة ….. الموية .. الموية الزرقا بيبيعوها ) ضربت الريدة يداً بيد وتذكرت وردان الموية ومسيرة الساعات الطوال، ورغم ذلك فإنها متاحة للجميع . البخيتة صديقة الريدة همست لها بشيء، دقت الريدة على صدرها قلقة خائفة ( سجمي دا كلام شنو يا بخيتة؟؟؟) وجعلت تبحث بعينيها عن ابنها الأصغر ثم اطمأنت بأن محمد ينام عند قدميها .
مع خيوط الفجر الأولى حدثت الريدة صغيرها( شوف يامحمد الديار دي نحنا غريبين فيها ضهرنا مكشوف ياولدي .. تب من جمبي لاتحود جاي لاجاي )وأسقط في يد الصغير فهو مسرور بحضوره للخرتوم مما سمعه من نعيمها والجنان وهاهي أمه تحدد إقامته ولكن ليس أمامه سوى السمع والطاعة، فقد اتفق رأي الضوء مع رأي أمه ( محمد إنت تمشي موقف البصات مع أمي .. أنا إتفقت مع سيدعربية كارو يجيكم الصباح، تشيلي أكلك يا أمي ومحمد يساعدك يقدم الطلبات ويغسل الصحون بتعرف يا محمد؟؟) هكذا سأل شقيقه الذي أجابه بسرعة ( بالحيل بعرف) وتابع الضوء (وأنا ببيع البرسيم والقصب للبهايم ) فردت أمه (خير ياولدي ) .
الضوء يجيد صنعة البناء وبالنفير مع الأهل بنى لأسرته دانقة كبيرة وغرفة وبالطبع زريبة للكرتة التي كانت تشكو الوحدة .. ما .. ما فإشترت الريدة (عتود ) لمآزرتها.
سارت الأيام والشهور والتحق محمد بالمدرسة نصحه شقيقه ( شوف يا أخوي خلي بالك من شرح المعلم شديد .. وأوعك من الهظار) . ملامح الحياة بانت وظهرت إلا أن الزوج لم يظهر وبحسرة تساءلت الريدة التي تعز ابن عمها وأبو أولادها كثيراً( معقول يكون حي ؟؟)زجرت نفسها (فال الله ولافالك) وأضافت ( هي لكن حتى إن دار الجية يلقى الواطة خلا يا كافي البلا ويعرف محلنا كيفن ؟؟)حزينة جداً كانت فقدت أحب أحبابها، والدها الشيخ وأبو الضوء شبهت حالها بالمثل ( فلان مرق أصبعاً ملحوس – أى صفر اليدين ولكن وبعد عدة شهور جاءها الضوء بالخبر الأكيد ( يمه قالو أبوي وصل الخرتوم ) لم تصدق .. قامت ثم جلست ثم قامت وزغردت وجاءت البشارة الثانية هذه المرة من محمد هزها بقوة ( يمه .. يمه الكرته ولدت جابت تيمان ) يالرحمة السماء … أسرعت.. شدت بليلة عيش فحتى البهيمة بعد الولادة تحتاج لوجبة دافئة.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية