نائب الأمين السياسي للشعبي "يوسف لبس" في حوار فوق العادة مع (المجهر):
ونحن جلوس في داره المتواضعة بضاحية (عد حسين)، كانت رفيقة دربه تعمل على خدمتنا بدأب شديد، وأثناء الحوار قدمت ابنته من الجامعة، تلك الفتاة التي تركها طفلة صغيرة ليخرج من السجن ويجدها فوق العشرين من عمرها. حوارنا معه كان محاولة لتشريح التاريخ القريب للحركة الإسلامية والإنقاذ، وسعياً لسبر أغوار الواقع الملتبس الذي تعيشه البلد ويعيشه المؤتمر الشعبي تقلباً من معاداة النظام إلى محاورته. كل ذلك كان نائب الأمين السياسي للشعبي الباشمهندس “يوسف محمد صالح لبس” يجيب عنه بكل صراحة وجرأة، وصبر قد يكون تعلمه من سنوات سجنه الاثنتي عشرة، التي أنهاها قبل أشهر قليلة، فلم يستنكف الرجل أن يقول رأيه صراحة في تجربة الحركة الإسلامية في الحكم، وفي واقع حزبه، بل وفي ما يتعلق به شخصياً من ابتلاءات، وما يمكن أن تصير إليه البلد في ظل ما تعانيه من أوضاع.
} هل تقر بفشل مشروع الحركة الإسلامية في الحكم؟
– البشر معرضون للابتلاء، فالله يبتلينا بالشر والخير فتنة، ولما جاءت الدولة الإسلامية، كانت الحركة تخطط أن تنهض بالمجتمع وإبراز القيم الإسلامية فيه، ولكن للأسف الشديد اعترتنا فتنة السلطان، وحاول الناس السير مع السلطان، ونسوا بعد الابتلاء الطويل القيم والمعاني التي هي السبب الأساسي لمجيء الإنقاذ فضيّع الناس المشروع الإسلامي.. أنا أعترف بحدوث فشل، ولكن حدث الفشل بعد أن تصاعد منحنى المشروع في شكل مثلث ولم يستقر طويلاً في شكل مستقيم ليهبط عمودياً، وهنا حدث الانهيار التام.
} ما السبب؟
– السبب أن الناس أرادوا البقاء في السلطة دون مراعاة القيم والمعاني التي أتت بنا إلى الحكم، وهذا أدى إلى فشل ذريع. ولكن بالمقابل أحدثت الإنقاذ في العشرية الأولى معجزات تتمثل في استخراج البترول والصناعات الحربية وغيرها رغم المضايقات والحصار، على عكس ما تلا العشرية الأولى.. تم فقط توسع في العمران، وشيء من الطرق…
} (مقاطعة).. لكنكم في العشرية الأولى فشلتم في قيمة أساسية هي الحريات وضيقتم كثيراً على الناس؟
– نعم صحيح، ولكن هناك حقيقة يجب أن يعرفها الناس أننا جئنا للإنقاذ مضطرين، فقد حدث انقلاب حقيقي من القوات المسلحة عبر مذكرة الفريق “عبد الرحمن سعيد” التي أجبرت “الصادق المهدي” على إخراج الجبهة الإسلامية من الحكومة، في وقت كانت مدن الجنوب تتساقط، فاضطرت الجبهة لاستعدال موازين الأوضاع بخطة لا تتجاوز عام 1994م بعدها يختار الشعب من يختاره من الأحزاب.
} لكنكم استحليتم البقاء؟
– نعم، شاءت الأقدار أن طعم السلطة كان مغرياً، جعل المجموعة الحاكمة تفكر في عدم التخلي عن السلطة، وتغنوا بقصائد (نجضت نجضت ما تدوها بغاث الطير).
} هل تقصد المجموعة العسكرية؟
– لا، ليس العسكريون فقط.. المدنيون هم الأساس، الذين انحرفوا عن المبادئ المرسومة، والعسكريون لم يكونوا ليفعلوا شيئاً لولا المدنيين. لكن في النهاية الفترة الأولى إيجابياتها أكبر من سلبياتها.
} كيف ذلك والعشرية الأولى شهدت انتقاصاً كبيراً للحريات وكبتاً للناس.. كيف يمكن التبرير لهذا؟
– هذا سؤال موضوعي جداً، فالحرية قيمة أساسية. لكن هذه تقديرات الناس حينها، فقد كان الأمن منفرطاً جداً حتى وسط الأحياء أيام الديمقراطية، ما تطلب إجراءات استثنائية، ولكن حدث انحراف واستمرأ البعض الأمر، وكان هذا التضييق مقاوماً داخلياً منذ 1992م، لكن للأسف تواصل التضييق.. لكنه لم يكن هدفاً للحركة الإسلامية.
} هل فعلاً كانت هناك بيوت أشباح؟
– لا أستطيع القول إنها بالصورة التي تشاع، لكن أقر أنه كانت هناك ممارسات غير سليمة، ولا تليق بالدولة الإسلامية، لكنها أخطاء البشر.
} ولكن لم يسمع الناس بمحاسبات عن هذه الأخطاء؟
– ليس بالضرورة أن تكون المحاسبات علنية، ولكن كانت هناك محاسبات.
} لكن هل تحلمون أن الشعب يمكن أن يثق في تجربة إسلامية من جديد؟
– لا أستطيع القول إن الشعب يئس تماماً من التجربة الإسلامية.. صحيح أن الشعب لديه الحق أن يقف موقفاً سلبياً من أية تجربة إسلامية جديدة. لكن لابد أن ندرك أننا لا ينبغي أن نعاقب الإسلام، بل نعاقب الذين أخطأوا في تطبيق الإسلام، ونعدّ هؤلاء هم الجناة. لذلك أنا أدعو الشعب أن يرجع للثقة في الإسلام، وأن لا يحملوه مسؤولية أخطاء بشر وانحرافهم وممارستهم التي لا تمت للإسلام بصلة.
} الشعب لن يحمل الإسلام المسؤولية لكنهم سيعاقبون الإسلاميين بأن لا يعطوهم فرصة أخرى؟
– من ضمن الإسلاميين نحن مؤتمر شعبي، ورغم أن كل الأحزاب تعرضت لانتهاكات خلال الإنقاذ، لكن ما حدث لنا خلال الأربع عشرة سنة الأخيرة يفوق ما حدث لكل القوى السياسية، وإن وقفنا عند الأذى الذي لحق بنا وسعينا للانتقام قد ينفرط عقد الدولة. لذلك من الضروري أن يفتح الجميع صفحة جديدة.
} هذا لن يعفيكم في الشعبي من المساءلة والمحاسبة بعد ذهاب النظام عن مسؤوليتكم في العشرية الأولى.. وهذا ما يردده حتى حلفاؤكم في المعارضة؟
– العشرية الأولى على مسؤوليتنا تماماً، وليست لدينا أية مشكلة في تحمل أية محاسبة عنها ونحن مستعدون. ولكن من يريد أن يحاسبنا عن العشرية الأولى عليه أن يعلم أننا سنفتح المحاسبة منذ الاستقلال وحتى الآن. وأنا لا أعتقد أننا ارتكبنا جر ماً كبيراً، ما عدا فقط الانقلاب.
} ليس الانقلاب فقط بل ما صاحبه من اعتقال وسجون وتعذيب وموت داخل المعتقلات؟
– قد تكون حدثت محاسبات غير معلنة تجاه هذه الممارسات، ولكن كل من لديه شخص تم قتله عليه أن يتظلم، وأهلاً وسهلاً بهذا، وليس لدينا اعتراض.
} الشعبي فاصل النظام بعد اتهامه بمفارقة أصول الدين وكنتم أشد أعداء النظام؟
– لم نفكر في إسقاط النظام منذ لحظة تأسيس الشعبي، لكن النظام لم يتحمل وجودنا ومارسوا القوة ضدنا وضد الجميع، ففكرنا في إسقاط النظام. ولكن مسألة الحوار والتراضي هي الأصل في الدين، الذي يأمرنا أن نجنح إلى السلم إن جنحوا لها، (وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله). والدين يأمرنا أن لا نقاتل حتى المحارب إن وضع السلاح واستسلم.
} هل ترون أن النظام الآن استسلم؟
– لا نقول إنه استسلم، لكنه طرح الحوار، وأقر ضمناً بأخطاء المرحلة السابقة.
} الدعوة للحوار ليست جديدة لكن الجديد قبولكم بها.. هل ترون جديداً في دعوتهم الآن للحوار؟
– المؤتمر الوطني لم يطرح الحوار بهذه الصورة من قبل، وكان يعمل على شق الأحزاب، واستقطاب بعض القوى إلى جانبه انتقائياً. الآن وضعنا أول شرط، أن يكون الحوار مع الجميع، وأننا سنكون في حل من الحوار إذا استُثني أي حزب، لذلك فالحوار هذه المرة يختلف عن المرات السابقة. عموماً، رغم هذا فقد يفشل الحوار، لأن هناك جهات وتيارات داخل النظام تقف ضده.
} لكنكم خذلتم حلفاءكم في المعارضة بالاتجاه نحو الحوار رغم قرارهم بالمقاطعة؟
– أبداً لم نخذلهم.. نحن قلنا للتحالف إننا نرى جدية في الحوار، وإننا على عهدنا مع المعارضة وسندخل الحوار بذات أطروحات المعارضة واشتراطاتها المتفق عليها، ووعدناهم بأننا سنعرض عليهم نتائج أية مرحلة في الحوار، عسى ولعل يجدوا أن هناك جدية ويقبلوا الدخول في الحوار.
} ولكن يرى كثيرون أنكم تتوقون إلى السلطة من جديد؟
– (بلهجة صارمة).. أبداً.. أبداً.. غير صحيح، وقد طرح الأمين العام د. “الترابي” أن لا تشارك الأحزاب في الحكومة الانتقالية، ونرى أنه يمكن أن تتشكل من التكنوقراط، وأن تبعد الأحزاب من الحكومة، وبعدها تطرح نفسها للتنافس. وهذا دليل على أن الشعبي غير حريص على الحكم، بل حريص على خروج البلد إلى بر الأمان معافى وتتم معالجة أوضاع الناس المعيشية السيئة.
} يبدو أن تبدل موقفكم من الحوار مربوط برغبات د.”الترابي” وأنتم كقيادات لا تملكون مخالفته.. فالشعبي هو حزب الرجل الواحد؟
– هذا ليس صحيح أبداً، “الترابي” مفكر وله إضافة في أي مجال، وما يطرحه الآن يمكن أن يفهمه الناس بعد عشرين سنة. واتهام الشعبي بأنه حزب الرجل الواحد يطلقه من لا يريدون الحوار، ويرغبون في التشكيك في قيادات الشعبي وفي (تعقيد) عضوية الحزب. وأنا أقول بصدق إن الشعبي حزب شوري جداً، وقرار الحوار هو قرار مؤسسات الحزب.
} هل من سقوف الحوار توحيد الحركة الإسلامية؟
– نحن لا نتحدث عن توحيد الحركة الإسلامية، فهي ليست من أولوياتنا.. اهتمامنا بإطفاء الحريق المشتعل في البلد.
} حتى إن لم يكن أولوية.. فهل توحيد الحركة موضوع في الأجندة؟
– نحن لا نرى أن الحركة الإسلامية هي الشعبي والوطني.. نحن نرى أن الصوفية وغيرها من الجماعات الإسلامية حركة إسلامية…
} (مقاطعة).. أنا اسأل هنا عن توحيد الوطني والشعبي؟
– لا، نحن لا نتحدث عن توحيد الحزبين.. نحن نسعى إلى توحيد أهل السودان، لكن لا نريد أبداً أن يأتي من جديد حزبان للتسلط على رقاب الآخرين. وعموماً إن انتفت دواعي الفراق فليس هناك ما يمنع الوحدة. ولكننا حتى الآن لا نفكر أصلاً في توحيد الحزبين، وغير مطروح أبداً الآن.
} هل ترحيب حلفائكم في المعارضة بالإطاحة بإسلاميي مصر دفعكم للتخوف من وجود تخطيط لإقصاء الإسلاميين في المنطقة فاضطررتم إلى محاورة النظام؟
– أبداً، لا أتفق مع هذا الرأي.. قد يكون رفض أحزاب المعارضة للحوار يدفعهم إلى ربط موقفنا من الحوار بما حدث في مصر. ونحن لا نعمل وفق ردود الأفعال. وصحيح، نحن لا ننسى موقف من يدعون الديمقراطية من ما حدث في مصر وغيرها عندما أفرزت إسلاميين. وأؤكد – أننا الإسلاميين – (أصدق ناس) في مسألة الديمقراطية. أما الأحزاب الأخرى في المعارضة فقد أيدت ما حدث في مصر في صورة غريبة منافية للديمقراطية وصفقوا للانقلاب. وهذا يدل على أنهم ضد الديمقراطية.
} إذن لماذا تبقون في تحالف مع قوى لا تؤمن بالديمقراطية؟
– نحن نريد أن ننقلهم إلى خانة الإيمان بالديمقراطية، ونتدافع معهم حتى يعلموا أن الديمقراطية والعدل هما الحل والمخرج، لذلك لا نريد الخروج من التحالف.